تحقيقات وتقارير

الجزيرة أبا.. تفاصيل أحداث قضت على (أخضر) المباني و(يابس) الوثائق

الناظر لحال الجزيرة أبا في ولاية النيل الأبيض بعد الأحداث الدامية والحارقة التي شهدتها خلال الاحتجاجات الأخيرة، لا يقوى إلا أن يحرك رأسه يمنة ويسرة، تعبيراً عن الحسرة، فما شهدته تلك البقعة المباركة لا يكاد يخطر على قلب أحد.. فالأحداث التي شهدتها الجزيرة أبا راح ضحيتها طالبان، وفقدت بموجبها وثائق تاريخية وقانونية وتعليمية ومباني لم يتبقَ منها إلا الأنقاض والرماد، وقضت على الأخضر واليابس في المؤسسات. مشهد مرعب ومبكٍ تعرض له الأهالي هناك بلا ذنب اقترفوه، فقدوا بموجبه أعز ما يملكون من إرث تاريخي ووثائق سهروا عليها الليالي وبذلوا فيها الغالي والنفيس، من جوديات ومصالحات وتسويات بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي، وصلوا خلالها لحلول بنسبة 96% لطي ملف يعد الأخطر هو ملف إعادة تخطيط الجزيرة أبا، الذي فقد في لحظة وجعل أهلها في حيرة من أمرهم.

 

(مصادر) كانت هناك

(مصادر) كان لا بد لها أن تذهب إلى هناك وتقف على ما دار وما حل من مصيبة على أهل الجزيرة، بفقدهم وثائق ومستندات تاريخية ودوراً تعتبر رمزاً للقانون ألا وهي محكمة الجزيرة أبا التي قضى الحريق على كل ما يوجد فيها من ملفات قضايا تتعلق بحياة أو موت، وليس هي وحدها بل الأدهى والأمر أن يفقد مجلس تعليم الأساس بالجزيرة أبا كل الوثائق والمستندات بما فيها امتحانات طلاب شهادة الأساس بعد اكتمال التحضيرات لها ثم حرق الوحدة الإدارية كلياً بما فيها ملف شؤون العاملين والحسابات، وبها ملفات أربعة موظفين توفاهم الله لديهم مستندات أصل بحقوق مالية راحت في الحرائق.

أسف وحزن كبير

وأبدى مواطنو الجزيرة أبا بالغ أسفهم وحزنهم الكبير على فقد أعز ما يملكون من فلذات أكباد ومستندات ووثائق تاريخية وقانونية وتعليمية وأملاك خاصة، أبرزها ملف إعادة تخطيط الجزيرة أبا، وهو الملف الشائك الذي ظلت صراعاته محتدمة منذ ثمانينيات القرن الماضي، حتى صدور قرار رئيس الجمهورية في العام 1993 الذي قضى بنزع أراضٍ من ملاكها وتسليمها للمواطنين، وحينها تم تكليف أتيام من الولاية الوسطى لإعادة التخطيط وبدأ العمل فعلياً في تنفيذ القرار الرئاسي بالإجراءات والمعالجات والتسويات عبر الجهات العدلية والإدارة الأهلية إلى أن توافقت الأطراف المتنازعة على وثائق ومستندات تم حفظها في ملفات وسجلات امتدت إليها يد القدر في لحظات.

حرق الرمز القانوني

لم يكن يتوقع حماد محمود عبد الله الذي يبلغ من العمر 70 عاماً يعمل خفيراً بالوحدة الإدارية الجزيرة أبا أن يشاهد يوماً أيادي تمتد لتحرق محكمة الجزيرة أبا الريفية، ذلك الإرث والرمز القانوني للبلد دون أي اعتبارات، لأهمية الصرح الشامخ الذي ظل موجوداً منذ عهد الثورة المهدية التي تشتهر بها منطقته بما فيها من ملفات محاكم وقضايا تتعلق بحياة وموت المواطنين الذين يحتكمون فيها بالعدل لإشاعة السلام والطمأنينة والاستقرار، تحدث إلينا والعبرة تخنقه: ما ذنب هذه المباني التي تمثل إعماراً لساكنيها، موضحاً أنه بعد صلاة المغرب داهمته مجموعة كبيرة بعد أن أشعلت النيران في المحكمة، وتطلب منه الخروج بعد رفضها لاستجدائه، وقال سألتهم (انتو منو وعايزين من الوحدة شنو؟ قالوا لي عايزين نحرقها، وسألتهم ما ذنبها؟ ولم يستجيبوا لي وحينها شبت الحرائق التي تشاهدونها).

الدمار الشامل

انفجر العم حماد باكياً بأعلى صوته، مردداً حسبي الله ونعم الوكيل، رددها كثيراً، “الحاصل ما نشاهده الآن”، هكذا قال لنا مدير شؤون الخدمة بوحدة الجزيرة أبا الإدارية الفاتح محمد سليمان والدموع تنهمر من عينيه، وهو يقول “حل بنا الدمار الشامل وهو شيء دخيل وغريب لم نعهده بيننا”، وتحسر على فقدان أربعة دواليب مُلئت بالمستندات والوثائق التي تخص عاملين لا حول ولا قوة لهم، بجانب كمبيوتر وملفات لأربعة أشخاص توفاهم الله تمت إجراءات لتسليم معاشهم لأسرهم التي تركونها بلا أب ولا أم، وهم ينتظرون المعاش لسد رمق العيش في هذه الظروف الصعبة، وأضاف أن المستندات التي تم حرقها تتبع للأساتذة المتوفين عمار محمد حامد، محمد إبراهيم باخت، سلوى الصادق حامد، والمرحومة مكينة حميدتي لازم.

أما الأستاذة عرفة عبد الرحمن علي الزين وهي مديرة الوحدة الإدارية، فأكدت لـ(مصادر) أن الوحدة تم حرقها بالكامل، ووصفته بالمدمر لكل مكاتب الوحدة، وأكدت فتح بلاغات جنائية في قسم شرطة الجزيرة أبا، وأشارت إلى أن أبرز الملفات المفقودة لديهم ملف الحسابات بجانب العربة الوحيدة في الوحدة ماركة سزوكي.

جهل مركب

مكتب التعليم بمرحلة الأساس أيضاً من الدور التي شملتها الأعمال التخريبية، وقال مدير وحدة تعليم الأساس الفاتح الأمين الحسين إن الحريق قضى تماماً على المكتب بكل محتوياته، وفقدنا مستندات تلاميذ الصف الثامن الذين يجلسون لامتحانات شهادة الأساس في شهر مارس المقبل، بالإضافة إلى مبالغ مالية تصل قيمتها 55 ألف جنيه ومكتب كامل للحاسوب به ثلاثة أجهزة وطابعات وماكينة تصوير ومستندات و أثاثات مكتبية، كما تم حرق الملف السري للمعلمين، وقال الفاتح إن من قاموا بهذا الفعل أصحاب جهل مركب، لأنه لا علاقة للدار بغلاء الأسعار.

مخطط مدبر

أيضاً وصلت عمليات التخريب إلى مكاتب التخطيط العمراني التي تم إنشاؤها حديثاً بمواصفات عالية، وأكد إبراهيم آدم الحبيب تعرضها لعمليات حرق حتى الغرف الفارغة لم تسلم منه. أما الموظف بمكتب إعادة تخطيط الجزيرة أبا الهادي حامد عمر (مانا)، فوصف العمل الذي تم في مكتب الأراضي بالهمجي والمخطط والمدبر له، ووصفه بأنه عمل لا يشبه أهل الجزيرة أبا الذين يعرفون قيمته والمكتوين بناره، وهي فقدان مستندات ووثائق خاصة بملف إعادة تخطيط الجزيرة أبا الذي اكتمل بنسبة وصلت إلى 96% كآخر تقرير سلم للجهات المختصة بعد أن شمل التخطيط 14 قرية وتم تجهيز كامل لمستنداتها وتبقت فقط ثلاث قرى يجري العمل فيها وهي (تكسبون، طيبة، الفريق)، كما أكد الهادي أيضاً من الملفات التي تم حرقها ملف تخطيط الجزيرة أبا الجديدة، التي تمت فيها تسويات وجوديات في فترة امتدت إلى 25 عاماً، تم فيها عمل خرط وكروكي لكل الأراضي السكنية والزراعية والعقودات، وقال الهادي إن كل هذه المستندات ذهبت أدراج الرياح.

العودة للصفر

وأوضح الهادي أن أبرز الملفات المفقودة لديهم والأصعب توصلاً إليها، هي الخرط التي تمت فيها معالجات منذ العام 1993م، وأكد الفراغ من عمليات التخطيط وقال ظللنا منذ ذلك الوقت نعمل في معالجات عبر المحاكم، وتم حصر التركات الخاصة بالمواطنين واستطعنا من خلاله التوصل لخرط نهائية للقرى والمربعات والأحياء في الجزيرة أبا، وقال هذه الحرائق رجعتنا للصفر.

واتهم الهادي أشخاصاً ملثمين من خارج الجزيرة قاموا بهذا الفعل، ولم يستبعد أن يكون الأمر مقصوداً لإعادة نزاعات الأراضي من جديد، لكنه أكد على وعي أهل الجزيرة أبا بتحقيق الأمن والاستقرار والسلام.

تبرئة المواطنين

رئيس محكمة الجزيرة أبا الريفية ورئيس الإدارة الأهلية بالجزيرة أبا، العمدة محمد الحسن إحيمر، أعلن شجب وإدانة عمليات التخريب التي تمت في مؤسسات الجزيرة أبا، وأشار إلى أن هذه المظاهرات كلفت المنطقة خسائراً فادحة راح ضحيتها ثلاثة تلاميذ مدارس، ووصف أن ما تم استهداف للمنطقة خاصة استهداف محكمة الجزيرة أبا التي اعتبرها تمثل رمزية للعدالة المستقلة.

وأكد تعاون أهل الجزيرة أبا مع الحكومة وبرأ ساحة مواطنيه من عمليات التخريب التي تمت فيها، وقال إن من قام بهذا الفعل طلاب وافدون يحملون أفكاراً دخيلة على المجتمع وأضاف الجزيرة أبا نحن ظللنا محافظين عليها في حدود إمكاناتنا ولا يمكن نخربها بأيادينا، والحرائق تمت بليل ونحن حارسنها ونستنكر ما تم وأهل الجزيرة أبا عرفوا بصبرهم منذ حكم نميري والذي حدث خلاله إحراق لأشياء حيوية تتبع لمواطنين لا علاقة لها بالحكومة، مثل محكمة القاضي المقيم وهي تعمل على إزالة الضرر عن المواطن وتقييمه وإنصافه في حقه، لكن أن يأتي شخص آخر يخرب علينا، الشيء الذي يحفظ لنا حقوقنا وأموالنا لا نقبله، ونحن بريئون منه، وأشار إلى أن مكتب أراضي الجزيرة يخدم شريحة الضعفاء والمساكين والأرامل وحرق مستنداتهم إيذاء لهم والحصول عليها ليس بالسهولة، لأن هناك قضايا تتعلق بحياة وموت المواطنين.

تدنيس المصاحف

مدير صندوق رعاية الطلاب بالجزيرة أبا، بشرى إبراهيم عبد الله، عبر عن بالغ أسفه على استخدام مصاحف لحرق عربة تكتوك في مقر الصندوق وهو عبارة عن منزل مستأجر من أحد المواطنين، وكشف عن حرق مكتب إدارة المناشط بالكامل ومكتب السلامة الطلابية، بجانب سماعات وكرتونة مصاحف وأجهزة حاسوب وبعض المستندات التي تخص إدارة الإسكان والمعدات الرياضية.

شديد الأسف

ليست هي فقط المؤسسات الحكومية وحدها التي أصابها الدمار والخراب إنما أيضاً تمت عملية إحراق وتلف لمركز (دلتا أبا) التعليمي الذي قام بجهد ذاتي وفق مشروع تكافلي لأبناء المنطقة الذين قاموا باستنفار شعبي لإنشاء هذا المركز، وأكد أستاذ اللغة الانجليزية بالمركز عبد الخالق أحمد تضرر المركز وبه أكثر من 40 جهاز حاسوب، وقال إن ما حدث أمر يتضرر منه المواطن فيما تحسر مدير وحدة الجزيرة أبا الإدارية حماد عبد الله موسى على التدمير الذي حل بالوحدة وكل ممتلكاتها وأغراض المواطنين وقال “نأسف شديد الأسف على دمار مؤسسات تعد ركيزة أساسية في تنمية المنطقة”.

ضبط المتورطين

من جهته، كشف معتمد محلية ربك موسى الصادق، أن المظاهرات خرجت من مساجد معروفة لديهم عقب صلاة الجمعة. وقال للصحيفة “بدأت سلمية وتحولت لتخريب وعاثت في السوق فساداً”، موضحاً أن المظاهرات التي اندلعت في (الجزيرة أبا) انطلقت من ميدان الحرية ومارست أعمال شغب كبيرة، وأكد الصادق ضبط السلطات للمتهمين المتورطين في أعمال الشغب، وكشف أن من بينهم محكومين تمت إدانتهم لدى المحكمة وفق الأحكام القضائية من خلال البينات والشهود، والهاربين تمت في مواجهتهم فتح بلاغات جنائية في قسم شرطة الجزيرة أبا.

النيل الأبيض: محمد علي كدابة

الخرطوم: (صحيفة مصادر)

 

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى