تحقيقات وتقارير

من ضحايا حرب إلى رواد مكتبات.. مبادرة سودانية تحاول جلب الحلم إلى الواقع

إن كانت الكتب عند البعض ترفا ثقافيا أو شيئا كماليا، فليس الأمر كذلك عند أهل الثقافة. فاستيلا قايتانو روائية وقاصة من دولة جنوب السودان، ويمثل الكتاب لديها ضمادة لجرح، وأداة بناء، ودرعا من الحرب، ومع إدراكها ما يمكن أن يحدثه الكتاب أطلقت مبادرة حملت اسم “اصنع فرقا بكتاب”.

 

الفكرة والالتقاط

زارت استيلا قايتانو دارفور مع خواتيم العام المنصرم لنشر ثقافة السلام، وإقامة ورش للكتابة الإبداعية، بالتعاون مع بعض المؤسسات الثقافية هناك، لتخرج بفكرة حولتها لمبادرة تهدف إلى توفير الكتاب وتأسيس مكتبات عامة، بعد أن وقفت على حال القراءة هناك.

تحدثت مطلقة المبادرة استيلا قايتانو للجزيرة نت عن تاريخ البداية والأهداف الأولى للمبادرة، وقالت إنه “بعد العودة من دارفور وبدار اتحاد الكتاب السودانيين تم إطلاق مبادرة اصنع فرقا بكتاب في 25 ديسمبر2020”.

 

 

وأضافت الروائية أن هدف المبادرة في بدايتها كان توفير الكتاب على تنوع محتواه، وتأسيس مكتبات عامة بدارفور، وتستطرد “بدأنا إعلانها في 3 مدن في شرق وجنوب ووسط دارفور (نيالا، ونيرتتي، والضعين) مستهدفين ألف عنوان لكل مدينة، لتكون نواة لتأسيس مكتبات عامة في هذه المدن”.

 

لقيت المبادرة دعما من قطاعات كبيرة ومؤسسات ثقافية، في مقدمتها اتحاد الكتاب السودانيين، الذي كان إطلاق المبادرة من داره، وأصبح شريكا رسميا لها.

 

وقال الأمين العام للاتحاد نادر السماني للجزيرة نت إن “المبادرة دعوة للمجتمع لصناعة الفرق بالمساهمة بكتاب أو يزيد، ونهجها قائم على التفاعل بين مكونات الشعب السوداني”.

 

ورأت استيلا بروح الإبداع ما لا يراه غيرها، وهذا ما أشار إليه الكاتب والباحث حامد بخيت، الذي قال للجزيرة نت “ندرة الكتاب في مناطق دارفور كانت وقود إطلاق المبادرة، وفي نظري إن المبدع وحده القادر على الملاحظة والانتباه لمجريات الأمور”.

من الشعب وإليه

ورغم الظروف التي يمر بها السودان، تميزت المبادرة بقوة دفع شعبية كبيرة، وتحدث نادر السماني عن تأثيرها قائلا “القرى النائية التي كنا نسمع بها مقرونة بالحروب والكوارث ها نحن الآن نحاول أن نسمع أسماءها مقرونة بالمكتبات العامة؛ مكتبات يطلع فيها أبناؤها وبناتها على الأفكار ويتدارسونها، ويقدمون الحلول العملية لمجتمعهم”.

 

ويضيف نادر “تبني جماهير الشعب هذا الفعل كان أفضل من أن يأتي بشكل رسمي، الشعب يقدم للشعب؛ فالمتبرع والمتبرع له واحد”.

سارة حمزة الجاك روائية أخرى كان حضورها في المبادرة قويا بشخصها، وعبر مركز الفال الثقافي الذي تديره، وترى صاحبة روايات “خيانتئذٍ” و”السوس” أهمية المبادرة، وكان مركزها من أوائل المشاركين فيها.

 

وتحدثت الجاك للجزيرة نت قائلة “المبادرة وجدت الصدى المطلوب، وأصبحت الآن مبادرة شعبية، والتقط قفازها كل من له ارتباط بالكلمة والكتاب والمعرفة، وأحس بأن له ما يقدمه”، وكان مركز الفال من أوائل الشركاء في هذه المبادرة ومن داعميها الأساسيين.

 

واكتسبت المبادرة دعما متناميا من أواسط المهمومين بالثقافة والفكر، وحظيت بشركاء ومسهمين جدد، من بينهم بيت الشعر الخرطوم، الذي قدم 400 عنوان، عبارة عن مساهمة أولى، واعدا بأنها لن تكون الأخيرة، كما قدمت دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر إسهاما كبيرا بلغ ألف عنوان.

 

ويرى مدير الدار الدكتور الأصم بشير التوم أن مؤسسته ذراع من أذرع الجامعة التي تضع خدمة المجتمع في أولوياتها، وأن وصول كتاب ليد طفل ناء لهو سبب سعادة.

 

رهان الوعي

ربما يذهب البعض حسب المتابعات لوصف المبادرة بأنها جيدة في زمان غير جيد، في إشارة إلى حاجات أخرى تبدو أكثر إلحاحا وآنية، لكن أهلها يرون ضرورة المبادرة في هذا الظرف، وفي ذلك يقول نادر السماني “المبادرة تفترض افتراضا أساسيا وهو أن المعرفة هي الوسيلة للتغيير الحقيقي نحو الأفضل”.

 

والافتراض الثاني المتفرع من ذلك هو “أن المعرفة تكتسب بالكتاب الورقي أو الرقمي، وهذا الكتاب لا يتوفر للجميع بالقدر نفسه، لذا فإن ضرورة وجود مكتبات عامة تتيح الفرصة لكل راغب أو راغبة في المعرفة، ويجب أن تتوفر لهم في منطقتهم وإن نأت”.

 

وترى سارة الجاك أن الوعي مطلوب وضروري، وبه وبالمعرفة تكون التنمية، مما يجعل الوقت مناسبا لها، “وعندما يكون الاشتغال على الوعي والمعرفة، نكون بذلك اشتغلنا على الإنسان والتنمية بمستوى أساسي، ولا شيء أقيم من أن يملك إنسان أدوات صناعة الوعي”.

 

والذي لا خلاف عليه أن الوعي يمكنه منع استعادة تواريخ من الحروب والإسهام في صياغة حاضر أفضل. ويرى أهل الثقافة أن الكل ينبغي عليه المساهمة في صناعة المستقبل، ولكن من قبيل تخصصه، كما تقول الجاك.

خارج الإطار

مبادرة “اصنع فرقا بكتاب” استهدفت 3 مدن في دارفور عند انطلاقتها، ثم أصبحت 5 بعد ذلك، وهي المرحلة الأولى للمبادرة، على أن تعم مناطق أخرى في السودان فيما خطط له، وفق ما أفادت به الروائية سارة الجاك، التي قالت “بعون الله تمت تغطية حاجة مكتبات دارفور، ونحن بصدد الانفتاح على مناطق أخرى: النيل الأزرق، وجنوب كردفان، والشمالية، وشرق السودان بمدنه وقراه المختلفة”.

 

الجدير بالذكر أن المبادرة تعول على قيام فعاليات ثقافية لجمع الكتب والترويج لها، وكان آخرها نهارية شعرية أقيمت بالتعاون مع بيت الشعر الخرطوم، ومثلما اتسعت خارطة المناطق المستهدفة في المبادرة، تمددت الفعاليات خارج الخرطوم مكان الإطلاق، وتمددت فعاليات جمع الكتب لمدن سودانية أخرى.

 

بل إن المبادرة تجاوزت حدود السودان، وتقول استيلا للجزيرة نت “نحن أيضا في جنوب السودان لدينا مشكلة وجود مكتبات عامة للناس، لذا أطلقنا المبادرة هناك، واعتمدنا على الشعب وتبرعاته”.

 

كسرت المبادرة الخارطة السياسية وتجاوزت الحدود الجديدة بين الدولتين، وهذا من الأمور المهمة في نظر سارة الجاك في “تجاسر ثقافي” كما أسمته. ويفيد الأمين العام لاتحاد الكتاب للجزيرة نت بتمدد المبادرة، ويقول في هذا الصدد “نستطيع أن نقول إنها امتدت إلى شعوب أخرى، هذه المبادرة امتدت إلى جنوب السودان، وإلى مصر التي جُمع لنا فيها رقم طيب من الكتب ستصلنا في مقبل الأيام”.

 

استيلا قايتانو أشارت إلى إمكانية التمدد في استقبال التبرع فقالت “حتى من دول أخرى يمكن التبرع بهذه الكتب لتأسيس مكتبات عامة للشباب الموجودين والناشئين”.

إشراقات وأزمات

شهدت المبادرة على عمرها القصير الكثير من الإشراقات؛ فهناك من يأتي لاتحاد الكتاب حاملا كتابا واحدا من دون أن تحرمه قلة ما يقدم من المساهمة.

 

واستوقف حامد بخيت موقف أطفال السودان المشاركين في المبادرة، وقال “أدهشتني مساهمة الأطفال في هذه المبادرة، خاصة الكتب المدرسية التي استغنوا عنها في العام الماضي، ما أجمل أن تتملك الأطفال مثل هذه المشاعر!”

 

ورغم المشاعر الإيجابية الكثيرة فإن هناك ما يخوف استيلا، وصرحت ببعضه للجزيرة نت “الآن الأمر الشاغل بالنسبة لنا كيفية ترحيل هذه الكتب لدارفور، وبشكل مواز هناك تدابير لتأسيس نواة المكتبات من مواقع وأثاث ولوازم كالأرفف والمقاعد؛ كلها أمور فيها بعض العنت”.

 

لكن ذلك لم يمنعها من التفاؤل خاصة مع الجهود المبذولة من قبل الشباب، وتضيف استيلا أن “الشباب في هذه المدن ينشدون السعي لإكمال تأسيس المكتبات لتستقبل هذه الكتب”.

 

حلم استيلا بإشاعة العلم والمعرفة والتنوير الثقافي تسنده شخصيات وفعاليات ثقافية تتمنى تحول الناشئة من معسكرات النزوح إلى مقاعد المكتبات، وأن تتحول أعينهم عن مرأى الحرب وآثارها لصفحات الكتب.

الخرطوم: عماد بابكر

الجزيرة نت

 

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى