جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: لماذا أحببت رانيا؟

لإخراس كل هماز مشاء نميم قد يسارع للفت انتباه السيدة حرمنا زاعما ان عين بعلها زائغة وأنه يجاهر بـ”المعصية”، أقول إن الحرم المصون أيضا تحب رانيا هذه، وأنت أيضا ستحبها إذا كنت ذا حس سليم؛ وهي شابة مصرية، بل شابة أوي، وكان عمرها عندما قرأت حكايتها 17 عاما فقط، وهي بكل المقاييس جميلة، (هذا انطباع فأنا لم أر صورتها)، ومثل بنات جيلها فإنها ترتدي البنطلون الجينز والتي شيرت، ولكن ليس بغرض الصرمحة في الشوارع والمولات، ولكن لدواعي أكل العيش، فهي تعمل سائقة جرار (تراكتر)، نعم تلك العربة المستخدمة في الحفر وتقليب التربة قبل وبعد الزراعة، وتتلقى اتصالات كثيرة على هاتفها الجوال، ولكنها ليست اتصالات من شاكلة: أنا بموت فيكي.. آه يا جراري اللي هيجيب قراري، بل اتصالات بأصوات خشنة: يا ست الكل يا رانيا، الله يخليكي ممكن تيجي تحرتي الارض بتاعتي بكرة أو بعده، ضروري تفوتي عليّ يا بنتي.
رانيا لم تصبح سائقة جرار لأنها تريد أن تصبح فتاة متميزة، بدخولها مجالا كان وما زال حكرا للرجال، بل لأن للضرورة أحكاما، وهي لا تكتفي باستخدام الجرار لحرث الأرض بل تبدأ نهارها بتحميله باسطوانات الغاز والتجول به بين البيوت والمطاعم في قريتها “الكوم” في محافظة كفر الشيخ، وتوزع أحيانا نحو 100 اسطوانة يوميا، وتتولى بنفسها تحميلها على الجرار وإنزالها حيثما يريد الزبون، ولو تذكرنا أن وزن الاسطوانة الممتلئة يبلغ 30 كيلوجراما، فمعنى هذا أن رانيا تحمل على كتفها يوميا 3000 كيلوجرام، واضطرت إلى ذلك بعد أن اقعد المرض والدها وهي وحيدة والديها؛ وكم من شخص يمشي في الطريق البطال متعللا بالفقر، ولكن رانيا اختارت ان تمشي في الطريق الدوغري ال”سيدا” على وعورته، فنالت احترام الجيران والزبائن وزملاء الدراسة، خاصة وأنها شديدة الاحتشام.. هو أنا ما قلتلكش؟ آآ رانيا حصلت سلفا على دبلوم تجارة وتم قبولها بإحدى الجامعات، وتعتزم أن توزع يومها بين الدراسة وكسب العيش، وأجمل ما في الموضوع أن زملاءها يتطوعون للركوب إلى جانبها أثناء تجوالها لتوزيع اسطوانات الغاز لأنهم يخشون عليها من التعرض للمضايقات والتحرشات، خاصة وقد سبق أن اعترض طريقها ذات مساء بعض البلطجية وطلبوا منها ان تنزل من الجرار وتركه لهم بما حمل، ولكنها رفضت وحاججتهم: أنا وأمي وأبويا نروح فين بعد ما تاخدوا الجرار؟ حتى لانت قلوبهم، وقرروا مرافقتها حتى البيت كي لا يعترض طريقها أحد خاصة وأن الظلام كان قد حل.
وأقول بكل فخر إن لدينا في السودان عشرات الآلاف من أمثال رانيا، اللواتي صرن كاسبات القوت لعائلاتهن إما لمحدودية دخل “رجل البيت” أو لعجزه بسبب المرض أو عامل السن.
عشرات الآلاف من النساء الشريفات يعملن من طلوع الفجر حتى الهزيع الأول من الليل في مهن تتطلب جهدا جسمانيا عاليا، وأعداد كبيرة جدا منهن جامعيات، فرحن حينا من الدهر بالبكالوريوس ثم اكتشفن أنه عديم الفائدة ما لم تكن حاملته مسنودة بأحد “الرؤوس”، فوضعن شهاداتهن تحت المخدة ودخلن معركة الحياة بسلاح العزيمة، ورغم أنني لا اشتري طعاما أو شرابا من محل يطل على شارع عام إلا أنني أتعمد شراء الشاي من نسوة يبعنه على قارعة الطريق من باب تعبيري عن احترامي لهن، ولن أنسى أبدا بائعة الشاي التي كانت جالسة أمام مدخل استلام الشحنات في مطار الخرطوم، ونشف ريقي وأنا وصديق لي ننتظر تخليص شحنة تخصني، فجلست وطلبت كوبين من الشاي ومددت لها ورقة مالية ولكنها قالت إنها لا تملك الفكة (الخردة بالخليجي)، فقلت لها: طيب شكرا ما في داعي للشاي، فإذا بها تصيح: علي بالطلاق تشربوه، ثم أضافت ما معناه إن قيمة كوبين من الشاي لن يجعلاها أكثر فقرا أو غنى. لك يا سيدتي ولكل النساء الشريفات التحية والاحترام.
وكلما كتبت عن المرأة العاملة تذكرت فتيات إدارة المرور في الدوحة: انضباط وأدب وسرعة في الإنجاز: طابور طويل من النساء خلف الأجهزة وكل واحدة منغمسة في عملها وتدخل الصالة الضخمة وبعد دقائق معدودة تكون قد أنجزت ما أتيت لأجله فتخرج وانت تدعو لهن بتمام العافية والمزيد من التوفيق.

 

 

صحيفة الشرق الاوسط

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى