جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: شبكة الجزيرة الإعلامية.. ربع قرن من الصعود والصمود

نجح فيروس كوفيد 19 فيما فشلت فيه العديد من الحكومات التي سعت لاختراق شبكة الجزيرة الإعلامية بهدف حرفها عن مهامها أو إقعادها أو تصفيتها، ولكن حتى نجاح الفيروس كان جزئيا، لأنه لم يفعل أكثر من أن أجهض احتفال عام 2020 بمرور 24 سنة على إنشاء قناة الجزيرة الفضائية والتي تكاثرت أذرعها ومنصاتها وصارت شبكة مترامية ومتشابكة الفروع تكمل بعضها بعضا، والجزيرة تمضي لتحتفي بمرور خمس وعشرين سنة على انطلاقها في مطلع نوفمبر المقبل ارجع البصر كرّات عديدة فينقلب إلي مترعا بالعجب والأمل والفخر

وما زال الأول من نوفمبر من عام 1996 الذي صادف يوم الجمعة حيا نابضا في ذاكرتي، فقد حرصت في أول مسائه على اعتزال الناس لأشهد شهقة ميلاد الجزيرة بعيدا عن الضوضاء: قناة الجزيرة في قطر؛ ثم جاء صوت الزميل أحمد الشيخ راعدا في خشوع: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي»، ثم: بسم الله الرحمن الرحيم «الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ…. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ»، وتلت ذلك إطلالة جمال ريان والهام بدر في أول نشرة أخبار، وتصدر النشرة خبر عن احتراب في زائير ثم شؤون وشجون الاحتراب بين فصائل كردية في شمال العراق، وكان الخبر الثالث عن الوضع في أفغانستان، وكان ذلك وفي حد ذاته مؤشرا الى ان الجزيرة «غير»، فقد كان تصدر أمر يتعلق ببلد أفريقي نشرة أخبار جهاز إعلامي عربي «سابقة» تشي بأن الجزيرة تولي الخبر أهمية بمحتواه وقيمته ك»خبر» خروجا على التقليد الإعلامي العربي الذي يجعل ترتيب الأخبار بروتوكوليا في نشراته التي تتصدرها الاتصالات الهاتفية والبرقيات والاتصالات المتبادلة بين أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة، وفي تلك الساعات الأولى من عمر الجزيرة توالى على الشاشة سامي حداد ومحمد كريشان وجميل عازر وأيمن جادة واحمد الشيخ ومنتهى الرمحي وأسمهان خوري، صحبة تشكيلة من البرامج غير مسبوقة المحتوى في التلفزة العربية أعطت المشاهدين «فكرة» عن طبيعة وتوجهات القناة وسياستها التحريرية: الاتجاه المعاكس / أكثر من رأي/ الشريعة والحياة/ الملف الأسبوعي/ بين السطور/ مراسلون

كان مشهد كرة اللؤلؤ وهي تشق عباب الماء صاعدة كالعنقاء- ذلك الطائر الخرافي- تتويجا لأشهر من العمل الملحمي المتواصل، وكان حلم قناة عربية تكون مكرسة لخدمة الحقيقة أقرب الى الخرافة في أذهان معظم من عُرضت عليهم فكرة المشروع، لأن جميع قنوات التلفزة العربية كانت ولا تزال خاضعة لأهواء الحكومات هنا وهناك وقامت على مجافاة قواعد العمل الإعلامي الاحترافي، ابتغاء مرضاة الحكام، كما كان هناك سوء ظن بالمشاهد العربي: هل يطيق قناة ليس فيها مسلسلات درامية او رقص او غناء او مسابقات؟ وعليه كان الهاجس الصامت هو مقولة «المية تكذب الغطاس» لتثبت الجزيرة عند لحظة الحقيقة أنها جاءت لتكسر ذلك النمط المستكين، وتخرج عنه مستعصمة بالضوابط والقواعد المهنية والأخلاقية

كانت فترة الاعداد لانطلاقة الجزيرة من أخصب الفترات في مسيرتها فقد تولت كوادر محدودة العدد مهام جسيمة في مناخ من الود والزمالة، وكانت فرق الصحفيين والفنيين التي تقوم بالتحضير لإطلاق القناة متفرغة تماما لمهامها لأن طواقم الاسناد الإداري والمالي تولت توفير كافة وسائل الراحة النفسية والجسدية للعاملين، بدرجة ان مندوبا من الإدارة المالية كان أحيانا يأتي الى غرفة الأخبار لتسليم شيكات الرواتب باليد لمن لا يملكون الوقت لمراجعة الشؤون المالية والتي كانت مكاتبها وقتها في حي كليب ثم انتقلت الى فريج بن عمران، بل إن أعضاء مجلس الإدارة الذي كان يتألف من الشيخ حمد بن ثامر (رئيسا) والسادة محمود السهلاوي وخلف المناعي وحسين عبد الله جعفر وعبد الواحد فخرو (رحمه الله) ومحمد جاسم العلي، كانوا يرابطون داخل القناة لمعظم ساعات اليوم، وعليه كانت كل مشكلة تعترض سير العمل تجد الحل الفوري، خاصة وان الجميع كانوا يتطوعون للعمل خارج إطار توصيفاتهم الوظيفية، وكان من المألوف أن يعمل احدهم في مجال تدريب الصحفيين الجدد على إعداد التقارير الإخبارية، ثم ينتقل الى البرامج الوثائقية او الرياضية، بل كان بعض الصحفيين يعاونون الفريق الإداري في أمور كثيرة، ويجدر بالذكر ان كيوتل (أوريدو لاحقا) كانت في طليعة الجهات التي قدمت الدعم للجزيرة، وعمل سلطان عبد الله المفتاح وخالد حزام وعبد الجليل عبد الحليم وآخرون على وضع البنية الأساسية للوائح الإدارية والمالية للقناة بل كان الأمير الوالد صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وبحكم انه صاحب فكرة القناة يتابع التحضيرات لانطلاقتها عن كثب، وكان الفريق المشرف على المشروع قد اقترح ان تحمل القناة اسم الصقر او الصقر الذهبي ولكن الشيخ حمد جاء باسم الجزيرة الذي نال الاستحسان، وقبل بدء البث في الأول من نوفمبر عام 1996 بساعات اجتمع الشيخ حمد بقيادات الجزيرة الصحفية وقال لهم «العالم تغير الآن بوجود الأقمار الصناعية والكمبيوتر الذي يتيح البحث عن كل شيء خلال ثانية فلا تحجبوا الحقيقة عن الناس.. قولوا الحقيقة حتى تكسبوا ثقتهم فيشاهدوكم»، وكان تطمينا للكوادر الصحفية بأن استقلالية وحياد الجزيرة يحظى بسند من أعلى سلطة في البلاد.

كانت الجزيرة أول مبادرة إعلامية تنطلق من نصف الكرة الجنوبي الذي ظل عالة على شبكات إعلامية مثل سي ان ان و»بي بي سي»، بدرجة ان كل ما عرفه العالم العربي عن الحرب المسماة عاصفة الصحراء (1990-1991) والتي تصدرتها القوات الأمريكية ومعها قوات رمزية من دول أخرى لتحرير الكويت من قبضة عراق صدام حسين، كان مصدره شبكة سي ان ان، ثم جاء الفصل الثاني من تلك الحرب في أواخر عام 1998 بذريعة تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل بمسمى ثعلب الصحراء، وكان للجزيرة وقتها مكتب في قلب بغداد يضم فرقا فنية وصحفية نقلت الى العالم الخارجي تفاصيل العمليات الحربية لحظة بلحظة، وصارت بذلك مصدرا للأخبار والتقارير المتعلقة بالأوضاع في العراق خلال تلك الحرب، بل كان هناك ممثلون للقنوات التلفزيونية الكبرى في العالم يرابطون داخل مباني قناة الجزيرة لينقلوا عنها تقاريرها مشفوعة بشعار القناة

ولعل تغطية الجزيرة لمعارك ثعلب الصحراء هي التي أقنعت العالم الغربي بأن قناة جديدة وقوية العود المهني أثبتت أهليتها وجدارتها في سوح الإعلام، ثم وفي عام 1999 صار إرسال الجزيرة على مدار الساعة بعد أن أصبحت رقما إعلاميا عالي الأهمية، ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 عند تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وجانب من مبنى وزارة الدفاع الأمريكية، وبثت الجزيرة أدلة قطعية بالصوت والصورة مصدرها زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن بأن أعضاء في التنظيم نفذوا عمليات التفجير تلك، ورغم ان جميع الوسائط الإعلامية في العالم وعلى رأسها تلك الغربية كانت تستقبل بكل ترحاب وتعيد بث ما تبثه الجزيرة عن خلفيات تلك العمليات، إلا ان غلاة اليمين الأمريكي الذين كانوا متحكمين في مفاصل السلطة في واشنطن في عهد جورج بوش الثاني، اعتبروا الجزيرة «مارقة» على بيت الطاعة الأمريكي، ثم دفعوا الملايين ل»مجموعة رندون» لتتولى رصد الجزيرة وتحليل محتوى نشراتها الإخبارية وبرامجها الحوارية لتكون مادة لشن حرب عليها بالتشكيك في صدقيتها، ثم اتخذت إدارة بوش من تلك التفجيرات ذريعة لغزو العراق عام 2003 ورفضت الجزيرة إلحاق صحفييها بالجيش الغازي لتغطية تلك الحرب، وأعلنتها صريحة أنها ستكون حيث تسقط القذائف وليس حيث تنطلق القذائف
عندما بدأ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 كان مندوبو وموفدو الجزيرة موجودين في كل مدن العراق الكبرى من البصرة جنوبا وحتى كركوك شمالا، وبذلك كانوا الطواقم الصحفية الوحيدة التي لا تثبت وقائع الحرب من المنظور الأمريكي وحده كما كانت تفعل وسائل الإعلام الأخرى، التي ارتضت ان ترافق طواقمها قوافل الجيش الأمريكي وتنقل فقط ما يقوله الناطقون باسم الجيش الأمريكي، ولم يغفر الأمريكان ذلك للجزيرة، ففي الثامن من ابريل من ذلك العام أصابت قذيفة شديدة الذكاء مكتب الجزيرة في بغداد، مما اسفر عن استشهاد طارق أيوب، ويكمن ذكاء القذيفة الفائق في كونها اصابت الهدف المنشود بدقة جراحية، فقد كان موقع المكتب معلوما لدى وزارة الدفاع الأمريكية وقيادة العمليات العسكرية في تلك الحرب، لأن الجزيرة كانت قد زودتهم بأحداثيات دقيقة للمكتب، كي يبعدوه عن الأماكن المستهدفة (وليس لقصفه)، وفي نوفمبر من عام 2005 نشرت صحيفة دايلي ميل البريطانية تفاصيل مذكرة سرية تم تسريبها من مكتب رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الزمان توني بلير تفيد بان الرئيس الأمريكي جورج بوش اقترح قصف مباني قناة الجزيرة في الدوحة.

وسرعان ما لحق المصور العراقي رشيد والي بالشهيد طارق أيوب، وبتفجر ثورات الربيع العربي في وجه الأنظمة الديكتاتورية، ازداد طابور شهداء الجزيرة عددا بان انضم اليه علي حسن الجابر ومحمد المسالمة وحسين عباس ومحمد القاسم ومهران الديري ومحمد الأصفر وزكريا إبراهيم ومبارك العبادي إبراهيم عمر عليهم رحمات الله.
ودارت الأيام وتناسلت الجزيرة وأنجبت جزرا أخرى بعضها بلغات غير العربية، ثم واكبت عصر التحول الرقمي وصارت حاضرة في العديد من المنصات التي جذبت الملايين ليتفاعلوا معها أخذا وعطاء، وينظر جيل مؤسسي الجزيرة الى سجل إنجازاتها الحافل ويكاد يحسب انها تحتفل بعد اشهر قليلة بعيدها الماسي وليس الفضي.
سنة حلوة يا جميلة ومستحيلة.

 

 

 

صحيفة الشرق

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى