جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: لو كان دوار مدماك رجلا!

لو كان سكان مدينة الدوحة يحفظون الجميل لأقاموا لي حفل تكريم سنويا، لأنني دافعت عن راحتهم الجسدية والنفسية على مدى سنوات طوال وانتصرت لهم، فقد جعلت من التخلص من دوار مدماك معركة مصيرية، وبذلت كل جهد للتشهير بذلك الدوار وفضح تآمره على الطلاب والموظفين والعمال، فقد كان ذلك الدوار العجيب (لم يكن مستحقا مسمى دوار لأنه لم يكن دائريا بل كان مخالفا لكل الأشكال الهندسية المعروفة وتتوسطه غابة استوائية كنت أشك في أنها “مسكونة”)- المهم كان ذلك الدوار يخنق حركة المرور في جميع الاتجاهات، ولا يمكن ان تمر به في منتصف النهار او الثالثة فجرا إلا وأوقفك لنحو نصف ساعة، وبسبب طابعه التآمري ذلك نال مئات الموظفين “لفت النظر” ومجالس التأديب بسبب التأخر في الوصول الى مواقع العمل.
أقمت لسنوات في بيت يطل على الدائري الثالث الذي كان دوار مدماك يتوسطه، وكان ذلك يحتّم علي المرور بمدماك على الأقل مرتين في اليوم الواحد، وكنت احسب ان الدوار يستهدفني و”يستقصدني” شخصيا، وما أن بدأت حملتي الصحفية عليه حتى اكتسبت عددا كبيرا من المؤيدين، ولحسن حظي كان من بينهم عدد من كبار موظفي هيئة أشغال، وذات يوم توجهت الى عملي في كيوتل (أوريدو لاحقا) في شارع السد، وعندما توجهت صوب مدماك قرأت في سري: “وجعلنا من بين أيدهم سدا ومن خلفهم سدا”، ثم يا للسعادة، وجدت لافتة تقول ان المرور محول، مما عنى انه كي اواصل المسير الى كيوتل لابد من دخول أحياء مثل اسلطة الجديدة والعسيري، فصحت: مرحبا بأم غويلينا ودخان والغرافة والخور طالما انني لن أمر بمدماك، وكي يطمئن قلبي أوقفت السيارة على الطريق مرتكبا مخالفة مرورية صريحة وتوجهت نحو الدوار ورأيت أمرا شرح صدري، فقد كانت هناك آليات ضخمة تفتك به، ورجال غلاظ شداد ينهالون عليه بالفؤوس، فتوجهت الى دكان قريب واشتريت كمية من الكولا الباردة ووزعتها على أولئك الرجال البواسل الذين كانوا يعملون على تخليص البشرية من ذلك الدوار المنبعج.
قد يقول البعض إنني كنت متحاملا على دوار مدماك، لأنني لم اكتب قط شاكيا من الدوار الذي كان موصوفا بالجنون، وحقيقة الأمر هي ان الدوار المجنون ذاك كان عبقرية في التخطيط المروري استوجبت تحديد مسارات متداخله في مساحة ضيقة في تقاطع طريق صغير مع آخر كبير، والدليل القاطع على ان ذلك الدوار كان عاقلا أنه لم يكن قط يشهد حوادث مرورية رغم ان اجتيازه كان يتطلب قراءة الفاتحة وآية الكرسي، بسبب تعقيدات مساراته.
ثم سبحان الله اختفت الدوارات الكبيرة الواحد تلو الآخر وظهرت في الدوحة شبكة من الطرق السريعة والجسور والأنفاق يقال إنها جعلت حركة المرور سلسلة وسهلة والمشاوير قصيرة الأمد، وقلت “يقال” لأنني صرت لا أعرف كوعي من بوعي في الدوحة، وأذكر انني وقبل ثلاث سنوات حاولت “أتفلسف” في حدود ضيقة وقدت السيارة في محيط قرية كتارا ثم اللؤلؤة، وظللت أسير وأسير ولا أعرف كيف أعود، حتى وجدت نفسي في مكان اسمه لوسيل، وطفت فيه منبهرا بكل شيء، ولكن لم أعرف كيف أعود من حيث أتيت، ولحسن الحظ لمحت سيارة تتبع ل”اللخويا” فتوقفت عنها وسألت طاقمها ان يدلوني على طريق يؤدي الى شارع الجامعة او الكورنيش، فقالوا لي ما معناه: تروح من هنا وتلف يمين يسار الخ الخ، فقلت لهم إن ما قالوه مجرد ألغاز بالنسبة لي ورجوتهم ان يتقدموني بسيارتهم حتى يضعوني على مسار مستقيم يؤدي الى شارع الجامعة ففعلوا ذلك مشكورين.
واعترف بأنني أعاني من ضعف الحس الجغرافي، وأن ذاكرتي لا تختزن المواقع والمعالم، بل إن ما يسمى ب”اللوكيشن” في الهواتف الذكية لا يعني شيئا بالنسبة لي، لأنني فاشل في قراءة الخرائط، وهكذا وكلما تصاعدت الطفرة الهائلة في البنى التحتية في قطر عموديا ورأسيا ازدادت جرعة “التخلف” عندي، واتعرض لشماتة من يعرفونني لأن بسيارتي نظام تحديد المواقع (جي بي إس)، ولكنه مجرد ديكور لأنني لا أثق به ولم أحاول تشغيله
وهكذا فإن دوار مدماك شامت فيّ من قبره، وأصلا لو كان رجلا لقتلني.

 

 

 

صحيفة الشرق

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى