منوعات وفنون

لأن الخوف ليس شعورا سلبيا تماما كما تعتقد

لا يحب أحد أن يشعر بالخوف من أي شيء، بل لربما يُعَدُّ الخوف هو أكثر المشاعر سلبية في حياتنا. لكن على الجانب آخر، رُبما لولا الشعور بالخوف ما استطاع الإنسان الحياة على الأرض وحفظ وجوده وحماية نفسه من التهديدات المُحتملة. الخوف إذن ليس شعورا مُظلما وسلبيا تماما، بل إن له جوانب يمكن أن تجعل حياتنا أفضل.

دون أن نُطيل في المقدمات، دعونا نتفق في البداية على تعريف “الخوف”. الخوف هو رد فعل حيوي تتخذه عند الشعور بخطر جسدي أو عاطفي. كان لهذا الشعور دور محوري في العصور القديمة حينما كان الإنسان يواجه الحيوانات المُفترسة، وكان الموت يُحيطه بانتظام. اليوم لا يخشى الناس من الأشياء ذاتها التي كان يخشى منها أسلافهم، ولكننا نخاف من أشياء مختلفة، تتفاوت من إلقاء الخطب العامة، إلى ركوب المصاعد، والأدوار المُرتفعة، والأماكن المُغلقة، والعناكب، وهي كما ترى أشياء لا تُهدِّد الحياة مُباشرة مثل المخاوف التي كان يواجهها الإنسان البدائي.(1) لكن على الرغم من اختلاف المخاطر، فإن رد الفعل الشديد حول الخوف لدى الإنسان المُعاصر هو رد الفعل نفسه الذي كان يتخذه الإنسان البدائي.

يشترك الإنسان مع الكائنات الأخرى في أنه غالبا ما يتعلم الخوف من خلال التجارب الشخصية، فقد يُطوِّر الإنسان الشعور بالخوف مثلا من الكلاب بسبب تعرُّض سابق لهجوم من قِبَل كلب عدواني، أو مراقبة البشر الآخرين الذين يتعرَّضون لهجوم من قِبَل كلب عدواني، كذلك قد ينتقل الخوف إليك عندما ترى شخصا آخر خائفا.(2) وبخلاف الكائنات الأخرى، يمكن للبشر الشعور بالخوف من خلال التعليمات، سواء كانت كلمات منطوقة أو ملاحظات مكتوبة، فإذا كانت هناك علامة تُشير إلى أن الكلب خطير، فإن القُرب من الكلب سيؤدي إلى حدوث استجابة الخوف.(3)

من ناحية أخرى، يمكن أن تؤدي المستويات غير الطبيعية من الخوف والقلق إلى مرور الشخص بضائقة نفسية وعقلية كبيرة، ربما تصل إلى حد حدوث اختلال وظيفي وعجز كامل عن قيام الشخص بمهامه وممارسة أنشطته الحياتية المُعتادة، ما يعوق الشخص عن النجاح والاستمتاع بالحياة.(4)

مثل العديد من المشاعر الأساسية الأخرى، يُسبِّب الخوف ردود فعل فسيولوجية في أجسامنا. يبدأ الخوف في الدماغ، ثم يمتد تأثيره إلى جميع أنحاء أجسامنا لنحصل على استجابة أكثر فاعلية للتعامل مع الموقف المُخيف. هذه التغييرات الجسدية تؤدي إلى تهيئتنا لنكون أكثر كفاءة في مواجهة الخطر، يُصبح الدماغ مُنتبها، تتوسَّع القصبات الهوائية ويتسارع التنفس، يرتفع معدل ضربات القلب وضغط الدم، يزداد تدفق الدم وتدفق الجلوكوز إلى العضلات، وتتباطأ حيوية الأعضاء غير اللازمة للبقاء على قيد الحياة خلال الموقف المخيف، مثل الجهاز الهضمي.(5) تنقبض العضلات، بما في ذلك تلك الموجودة في قاعدة كل شعرة، مما يتسبَّب في حدوث انتصاب الشعيرات بالجسم، قد لا يُمثِّل هذا الأمر فارقا كبيرا في مظهر الإنسان، ولكن بالنسبة للحيوانات ذات الشعر الكثيف، فإن انتصاب الشعيرات هذا يجعلها تبدو أضخم حجما وأكثر قوة.

يساعد جزء من الدماغ يُسمى “الحُصين” على تفسير التهديد المتصوَّر، وهو يشارك مع مناطق أخرى في معالجة عالية المستوى للسياق وإدراكه وتفسيره، مما يساعد الشخص على معرفة ما إذا كان التهديد المتصوَّر حقيقيا أم زائفا. إذا قرَّر الحُصين أن استجابة الخوف مُبالغ فيها، فسوف يعمل على تثبيط الخوف.(6) على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي رؤية أسد في البرية إلى الشعور بالخوف الشديد، على الرغم من أنك لا تشعر بهذا الخوف عند رؤية الأسد نفسه داخل قفص في حديقة الحيوان.

في المقابل، عندما تتعرَّض لموقف خطير فعلا، ستجد أنك تتصرَّف تلقائيا بإحدى الطرق التالية: التجمُّد، وهو رد الفعل الأوَّلي تجاه الخوف، والمقصود به أن تُشل حركتك تماما فلا تستطيع التحرُّك أو التصرُّف، ورُبما لا تستطيع حتى التفكير، رد الفعل التالي هو الهروب، والمقصود به الابتعاد عن كل ما يُثير مخاوفنا. رد الفعل الأخير هو المواجهة أو القتال، وهو الفعل الذي تقوم به إذا لم تتمكَّن من الابتعاد عما يُسبِّب لك الخوف.

قد يكون رد الفعل الذي تتخذه أجسادنا عند التعرُّض للخوف، بالقتال أو الهروب، ردَّ فعلٍ منطقيا للحفاظ على حياتنا. ولكن كيف يمكن أن يكون التجمُّد مفيدا؟ قد تعتقد أن الحيوان الذي يقف ثابتا مُتجمِّدا في المكان من شأنه أن يُصبح وجبة سهلة للحيوان المفترس، لكن الواقع هو أنه عندما تشعر معظم الكائنات بالخوف، فإنها تتجمَّد لبضع لحظات قبل أن تُقرِّر ما يجب فعله بعد ذلك. أحيانا يكون البقاء بلا حراك هو أفضل طريقة للنجاة، خاصة إذا كان الكائن المُعرَّض للخطر من الثدييات الصغيرة، أو إذا كان جسده مُموَّها، حيث يمكن للبقاء ساكنا أن يُنقذ حياته.(7)

الجوانب المُضيئة للخوف
خوف – فوبيا – حشرات – فائدة

حسنا، رغم زوال المخاطر التي أحاطت بالإنسان الأول، فإن الخوف ما زال مفيدا لحفظ حياتنا. قد تتحرَّك عبر طريق مزدحم وتحتاج إلى التصرُّف سريعا إذا اقتربت منك سيارة مُندفعة. بدون الخوف لن يكون لديك الطاقة أو التركيز أو السرعة أو القوة لاتخاذ رد الفعل المناسب.

من ناحية أخرى، يذكر مقال نُشر على منصة “psychcentral” النفسية أن الخوف يمكن أن يكون طريقة أجسامنا للتعبير عن وجود مشكلة ما، في هذه الحالة علينا فقط الاستماع إلى أجسادنا لنتمكَّن من التعامل بفاعلية مع المشكلة. يمكن أن يكون الشعور بالخوف رسالة عاطفية مهمة تُحذِّرنا وتُخبرنا بالابتعاد عن المواقف الخطيرة التي قد لا نُدرك بشكل واعٍ أنها كذلك. هنا يحاول الخوف مساعدتنا في التغلُّب على المواقف التي قد تكون ساحقة، لذلك فالخوف ليس دائما شعورا يجب إحباطه وتجاوزه.(8)

تُناقش ليزا رانكين، وهي طبيبة تُحاول التعريف بالخوف والجوانب المفيدة والضارة لهذا الشعور، كيف أن الخوف ضروري بالتأكيد لبقائنا. وأطلقت على الخوف الذي نشعر به عند مواجهة أزمة أو مشكلة ما اسم “الخوف الحقيقي”. تقول رانكين: “الخوف الحقيقي يمكن أن يكون خفيا، قد يظهر بوصفه معرفة حدسية تقول: عليّ ألا أدع طفلي يقضي الليل في منزل ذلك الشخص. كما يمكن أن يظهر هذا الخوف في صورة حلم، أو صوت داخلي، أو شعور داخلي بأن شيئا سيئا على وشك الحدوث”. وفقا لرانكين فإن هذا النوع من الخوف قد لا يؤكد يقينًا وجود خطر مباشر، لكنه على أي حال ما زال بإمكانه تنبيهنا إلى المشكلات التي علينا الانتباه إليها.(9)

ربما يُساعدك الشعور بالقليل من الخوف أيضا على فقدان الوزن، فهو يحرق سعرات حرارية مقارنة بالأوقات التي لا تكون فيها خائفا. فمع تسارع النبض وإفراز الأدرينالين، يزداد مُعدل التمثيل الغذائي ويبدأ الجسم في حرق السكر والدهون. أظهرت دراسة أجراها باحثون في جامعة وستمنستر أن مشاهدة أفلام الرعب يمكن أن تساعد على حرق ما يُعادل السعرات الحرارية التي تحصل عليها من تناول قطعة صغيرة من الشوكولاتة.

وفقا للدراسة، من المرجَّح أن يحرق أولئك الذين شاهدوا فيلم رعب مُدّته 90 دقيقة ما يصل إلى 113 سعرة حرارية، وهو عدد السعرات الحرارية نفسه الذي يُمكنك حرقه من المشي لمُدّة نصف ساعة.(10)

فائدة أخرى للشعور بالخوف وهي أنه يقوي مؤقتا جهاز المناعة، وهذا ما أظهرته دراسة أجرتها جامعة كوفنتري بالمملكة المتحدة عام 2009، حيث أُخذت عينات دم من المشاركين في الدراسة قبل وبعد مشاهدة فيلم رعب مُدّته 83 دقيقة. وأظهرت النتائج أن ردود الفعل الفسيولوجية للخوف لدى المبحوثين تسبَّبت في حدوث ارتفاع في خلايا الدم البيضاء لديهم، وهي نوع الخلايا التي تدافع عن الجسم ضد كل الأمراض المُعدية.(11)

أيضا وجد الباحثون أن الرسائل القائمة على التخويف فعّالة في التأثير على المواقف والسلوكيات، خاصة بين النساء، وفقا لمراجعة شاملة لدراسات أُجريت خلال أكثر من 50 عاما من البحث حول هذا الموضوع نشرتها الجمعية الأميركية لعلم النفس. أطلق الباحثون على هذه الرسائل اسم “نداءات الخوف”، وهي رسائل مقنعة تؤكد الخطر المُحتمل والأذى الذي قد يُصيب الأفراد إذا لم يتبنّوا توصيات الرسائل. هذه الأنواع من الرسائل تُستخدم بشيوع في الحملات الإعلانية السياسية والتجارية والصحية العامة، على سبيل المثال، التدخين سيقتلك، أو المرشح “س” سيُدمِّر الاقتصاد.(12)

عند بعض الناس، يمكن أن يكون الخوف سببا للإثارة والمتعة، فتجد مَن يُفضِّل مشاهدة أفلام الرعب، أو يدفع المال لدخول بيت الرعب لتعريض نفسه لبعض الخوف، يُفسِّر ذلك ما كشفه العلماء حول أن أدمغة الناس تتفاعل تفاعلا مختلفا أثناء التعرُّض للخوف. أحد الهرمونات التي تُطلق أثناء التعرُّض للمواقف المخيفة هو الدوبامين، المعروف أيضا باسم هرمون “الشعور بالرضا”، لأنه جزئيا مسؤول عن شعور عقلك بالسعادة. عندما يتدفق الدوبامين عند التعرُّض لموقف مخيف، فإن بعض الناس يتفاعلون معه بقوة أكبر من غيرهم، وهو ما يجعل مشاعر الخوف أقرب إلى الإثارة عند بعض الناس.

السبب الآخر الذي يجعل الناس يستمتعون بالخوف هو أنهم متأكدون من أن تعرُّضهم للخوف محسوب ولا يُشير إلى تعرُّضهم لخطر فعلي بأي درجة، فهم يعرفون تماما أنهم آمنون بالفعل. عندما نشاهد أفلام الرعب ونحن مُلتفّون بأغطيتنا الوثيرة، فإننا نخدع عقولنا لإثارة استجاباتنا للقتال أو الهروب، ونختبر هذا المزيج المذهل من الأدرينالين والدوبامين، ولكن في الوقت ذاته، نحن نعلم في قرارة أنفسنا أننا آمنون تماما.(13)

وصفة للتعامل مع الخوف

الخوف ليس سيئا تماما إذن، بل إنك لست بحاجة إلى التغلُّب على كل المخاوف التي لديك كما يُخبرونك. قد لا يكون الخوف العَرَضي من حدوث “تسونامي” شعورا مدمرا لحياتك اليومية إذا كنت تعيش على بُعد 1000 ميل من المحيط مثلا، ولكن قد تكون مشكلة فعلية إذا كنت تعيش على الساحل وتُصاب بالذعر في كل مرة تسمع فيها عن الزلازل أو العواصف لأنك تعتقد أنك قد تكون في خطر. عندما تخاف من شيء لا يمكنك تجنُّبه بسهولة، أو إذا كان تجنُّب الشيء الذي تخافه يعوقك عن ممارسة حياتك الطبيعية، فهنا يكون من المهم مواجهة هذا الخوف.

لكي تتمكَّن من مواجهة مخاوفك عليك البدء أولا بتقييم المخاطر، ففي بعض الأحيان، يحدث الخوف من عدم معرفة الكثير عن الشيء الذي تخافه، مثلا قد تخاف من الطائرات لأنك سمعت عن الكثير من الحوادث الجوية التي تؤدي إلى الإصابة أو الوفاة. ومع ذلك، بالقليل فقط من البحث والاطلاع على الإحصائيات، ستجد أن احتمال الوفاة على متن طائرة أقل بكثير من احتمال الوفاة بسبب التدخين. بعد الاطلاع والتعرُّف إلى الحقائق ستتمكَّن من تقييم المخاطر وما إذا كانت مخاوفك تستحق فعلا أخذها في الاعتبار أم لا.(14)

مما يُمكنك فعله أيضا للتغلُّب على مخاوفك أن تتوقَّف عن الحكم سلبيا على نفسك ومخاوفك. بدلا من ذلك، فكِّر في إعادة صياغة الطريقة التي تنظر بها إلى الخوف، لا تفكر في أن الخوف نفسه أمر جيد أو سيئ، ضع في اعتبارك أنه معلومات يحاول جسدك من خلالها أن يُنبهك لشيء ما، وما عليك هنا أن تُقيِّم هذه المعلومات وما إذا كان الإنذار حقيقيا أم زائفا، وماذا عليك أن تفعل حيال الأمر في الحالتين.(15)

خوف – تكبير المخاوف – عنكبوت

للتغلُّب على الخوف يجب أيضا أن تتمهَّل ولو للحظات، وخذ نفسا عميقا، سيساعد هذا على تنشيط الجهاز العصبي السمبثاوي، وهو النظام المسؤول عن الراحة والنوم والاستمتاع، وهو أمر كفيل بجلب بعض الهدوء إلى جسمك. عند تنشيط هذا الجهاز، فمن المُرجَّح أن تكون قادرا على التفكير بوضوح، ولكن لتحقيق هذا تذكَّر أن التنفُّس يجب أن يكون بطيئا وعميقا من البطن.

إذا كُنت تُعاني من واحدة من حالات الرهاب، فيُمكنك تجربة العلاج بالتعرُّض مع معالج متخصص (بعد استشارة طبية). العلاج بالتعرُّض هو شكل من أشكال العلاج المعرفي، يتعرَّض خلاله المرضى تدريجيا وبشكل متزايد للشيء الذي يخشونه، على أن يتم هذا في بيئة آمنة تماما. تُشير الأبحاث إلى أن جلسة واحدة فقط من هذا العلاج تستمر من أربع إلى ست ساعات يمكن أن تكون فعّالة.(16)

وفقا لدراسة نُشرت في مجلة “ساينس” (Science)، يتعيَّن على الدماغ تجربة التعرُّض المتكرر للخوف من أجل التغلُّب عليه. خلال الدراسة وضع الباحثون قوارض في صندوق صغير وأعطوها صدمة خفيفة، ثم، لفترة طويلة، وضعوا القوارض نفسها في الصندوق نفسه دون التعرُّض للصدمات. في البداية، تجمَّدت الفئران بسبب وجودهم في الصندوق، ولكن مع التعرُّض المتكرر، كانت قادرة على الاسترخاء.(17) في حين أن الأبحاث على الحيوانات لا تنطبق مباشرة على البشر، فإن الفكرة وراء مواجهة مخاوفك تهدف إلى تحقيق نتيجة مماثلة.

إذا كانت مخاوفك مُنهِكة وتُعطِّلك عن التقدُّم في حياتك، أو تجد أنك لا تستطيع التعامل معها بمفردك، فيُمكنك طلب المساعدة من أخصائي صحة نفسية. يمكن للعلاج السلوكي المعرفي أن يساعد في تقليل حساسيتك نحو مخاوفك تدريجيا، قد يتضمَّن العلاج التحدُّث عن الشيء الذي يُخيفك، وممارسة إستراتيجيات الاسترخاء. يمكن للمعالج أن يساعدك على التقدُّم في خطة العلاج بوتيرة مريحة ومناسبة بالنسبة إليك.

الخرطوم (كوش نيوز)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى