تحقيقات وتقارير

مبادرة الجيش لحلّ الأزمة السودانية تربك المدنيين

اعتاد رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبدالفتاح البرهان أن يستبق خصومه ويبادر باتخاذ خطوات مسبقة تمكنه من القبض على مفاتيح السلطة، ويحرص على وضع القوى المدنية في خانة رد الفعل، وبدا قادرا على توجيه التطورات السياسية لخدمة رؤية بلورها عقب انقلابه العسكري في أكتوبر الماضي.
وقدم البرهان ما يراه طرحا شاملا يتكون من محاور يعتقد أنها قادرة على تجاوز الأزمة السياسية في لقائه مع وفد مفوضية الاتحاد الأفريقي مساء الأحد، مستبقا إعلان البعثة الأممية قريبا عن نتائج المشاورات التي أجرتها مع مجموعات سياسية وأهلية عديدة بعد أن أنهت المرحلة الأولى من المباحثات.

وظهر رئيس مجلس السيادة كطرف مبادر بالحل لديه رؤية محددة بشأن إنهاء الأزمة عكس القوى المدنية التي تراوح مكانها ولا تستطيع التوافق على طرح واضح حاليا.
ومن المتوقع أن ترفض القوى المدنية ما ذهب إليه البرهان، وستكون بحاجة للانخراط مجددا في مفاوضات مع أطراف داخلية وخارجية للبحث عن وساطة تُمكنها من البناء على رؤية عامة تقوم على إبعاد الجيش عن السلطة وعدم تمديد الفترة الانتقالية.

الرشيد محمد إبراهيم: البرهان يستبق إرغامه على القبول بمبادرات لا يقبلها
وقدم البرهان ما وصفه بـ”رؤية الحكومة لحل الأزمة الراهنة” وفق أربعة محاور تشمل إطلاق عملية حوار شامل يضم جميع القوى السياسية والاجتماعية بالبلاد، عدا حزب المؤتمر الوطني، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة لقيادة ما تبقى من الفترة الانتقالية، وإجراء تعديلات على الوثيقة الدستورية لتواكب متغيرات المشهد السياسي بالبلاد، والتأكيد على قيام انتخابات حرة ونزيهة بنهاية الفترة الانتقالية.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يتقدم فيها المكون العسكري بخطوات على خصومه، وبرهنت غالبية تحركاته عقب الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير على أنه يملك أدوات يوظفها حينما تقتضي الضرورة، وهو الذي بادر بطلب حل حكومة عبدالله حمدوك الثانية قبل أن يصدر قراره بفض الشراكة مع المكون المدني.

ولم ينتظر المكون العسكري إحكام الحصار حوله من جانب القوى المدنية باللجوء إلى الشارع فبادر بتفريغ تحركاتها من مضامينها السياسية مبكرا، وكلما شعر بأن الخناق يضيق عليه يتبنى خطوة جديدة ضدها تربكها.
وفي الوقت الذي تصاعدت فيه حدة الانتقادات الدولية أفسح البرهان المجال أمام توقيع اتفاق سياسي مع حكومة حمدوك السابقة، ما بعثر أوراق القوى المدنية التي تجد نفسها أمام أمر واقع جديد يمنع العودة إلى جوهر الوثيقة الدستورية التي حددت آلية الحكم.
ويرى مراقبون أن البرهان وظف حالة الانسداد التي هيمنت على العلاقة بين القوى المدنية لتكليف حكومة كفاءات وأعاد ترتيب أوراقه مع القوى المؤيدة له على مستوى الحركات المسلحة والإدارات الأهلية، قبل أن يبادر بالتصعيد مرة أخرى عبر إقدامه على اعتقال قيادات مدنية بارزة، ووجد أن إغراق القوى المؤثرة في الشارع بأزماتها وخلخلة أركانها الداخلية حل يُمكنه من تمرير رؤيته.

وقال أستاذ العلوم السياسية بمركز العلاقات الدولية بالخرطوم الرشيد محمد إبراهيم، إن البرهان يستبق محاولات الخارج لإرغامه على القبول بمبادرات لا تلقى قبولا لديه، ويخشى أن يظهر كطرف رافض لأي حلول دولية.
وأضاف في تصريح لمصادر مطلعة أن المكون العسكري بعث إشارة إلى الولايات المتحدة بأنه سيمضي في طريقه الذي أعلنه في أكتوبر الماضي بهدف التأكيد على أن الحديث عن وجود عقوبات أمام الجيش ليس له تأثير على مستوى المرحلة الانتقالية إلى حين إجراء الانتخابات، وأن خطواته تنبع من مسؤولية القوات المسلحة التي تقود البلاد كطرف قادر على توجيه دفة الأحداث بعد أن أنهى الشراكة مع المكون المدني.
ولفت الرشيد إلى أن مجلس السيادة لديه رغبة في أن يكون الاتحاد الأفريقي في صدارة مشهد الوساطة وليس الأمم المتحدة، وذلك يرجع لأن الأول يملك دراية بطبيعة الصراعات في السودان ويعد الطرف الراعي للاتفاق الأول مع القوى المدنية الذي أفرز الوثيقة الدستورية.

من الصعوبة أن يتمكن البرهان من تحقيق رؤيته دون وجود توافق شامل بين القوى المدنية باعتبارها العمود الأساس للتحول الديمقراطي
ودفع ذلك البرهان إلى التأكيد خلال لقائه مع وفد مفوضية الاتحاد الأفريقي الذي رأسه موسى فكي على ضرورة “توحيد الجهود الدولية والإقليمية لحل الأزمة الراهنة في السودان”، في إشارة إلى رغبته في التمهيد لإقصاء الأمم المتحدة.
ويوفر تماسك المكون العسكري أمام الضغوط الداخلية والخارجية فرصة له ليبدو أكثر قدرة على التحكم في الأحداث، والتعويل على عامل الزمن وإرباك الخصوم خطة مضمونة، ولم يعد مجلس السيادة منزعجا من الاحتجاجات، بل أعلن عن فتح عدد من الطرق التي سبق أن أغلقتها خشية وصول المظاهرات إلى القصر الرئاسي.
وأكد جهاز أمن ولاية الخرطوم على حرية التعبير وحدد الميادين العامة كأماكن للتجمعات والمواكب وأن حركة السير ستكون كالمُعتاد وفتح الكباري وعدم قطع الاتصالات، لكن جرى حظر التظاهرات بوسط الخرطوم وحتى مقر القيادة العامة.
وخرج الآلاف من السودانيين الاثنين في مسيرات بالخرطوم ومدن أخرى تحت شعار “الحرية للمعتقلين” ورفعته تنسيقيات لجان المقاومة احتجاجا على الاعتقالات في صفوف المكون المدني ومن أبرزها توقيف عضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي سليمان الذي شغل أيضا منصب الرئيس المناوب للجنة إزالة التمكين.

وأوضح أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم أبوالقاسم إبراهيم آدم، أن الخلافات داخل الأحزاب توجد أشكالا عدة للصراع، والأمر لا يقتصر فقط على استحواذ العسكر على السلطة، بالتالي فالتظاهرات لن تحقق الهدف منها مع تعددها وتواليها لعدم وجود الحد الأدنى من القدرة على التوافق بين الأطراف المدنية.
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن المكون العسكري في المقابل لديه مراكز بحث استراتيجية وخبراء قادرون على قراءة المشهد والتحرك لخدمة الرؤية الموحدة بين القادة العسكريين حتى الآن، في حين أن تفتت القوى المدنية يجعلها في سياق ردة الفعل الضعيفة التي لا تجذب بعض المكونات الداخلية، وبالتبعية لا تُقنع الأطراف الخارجية التي تصلها رسائل مشتتة نتيجة توالي النزاعات.
لكن من الصعوبة أن يتمكن البرهان من تحقيق رؤيته دون وجود توافق شامل بين القوى المدنية باعتبارها العمود الأساس للتحول الديمقراطي، ومن غير ذلك لن يستطيع الجنرال القوي حاليا تعديل الدستور أو وضع قوانين الانتخابات وإقناع الداخل والخارج بتدشينها، فقد تندلع في تلك الحظة صراعات متفرقة.

 

(جريدة العرب اللندنية)

 

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى