تحقيقات وتقارير

كثرة المسكنات أضرّت بالسودان

المظاهرات كشفت أن السودان لن ينزل النهر مرتين فما بالنا بثلاث، فالاحتجاجات لا تتكرر وإن تكررت لا تأتي بنتيجة مماثلة والأنظمة القمعية لا تتغير وإن تغيرت تحافظ على عاداتها السيئة.
فقدت الحلول التي تعتمد على تعاطي المسكنات مفعولها السياسي في السودان، ولم تعد المؤسسة العسكرية قادرة على التحايل والتسويف لفرض هيمنتها على البلاد، ولن تتمكن القوى المدنية من فرض الديمقراطية التي تريدها عبر قبولها بالمهدّئات، ولن يصبر المواطنون كثيرا على الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تطاردهم كل يوم.
كشفت المظاهرات التي بدأت الخميس أن السودان لن ينزل النهر مرتين، فما بالنا بثلاث، فالاحتجاجات لا تتكرر وإن تكررت لا تأتي بنتيجة مماثلة، والأنظمة القمعية لا تتغير وإن تغيّرت تحافظ على عاداتها السيئة، فتزامن الاحتجاج مع ذكرى إيجابية أو سلبية لا يعني الوصول إلى الأهداف ذاتها.

كان يوم الثلاثين من يونيو عام 2019 يوما مشهودا في فرض صيغة انتقالية على المكون العسكري والقبول بشراكة مع المكون المدني، وكان مشهودا أيضا عام 1989 لأنه اليوم الذي خطف فيه الجيش السلطة من المدنيين، وهما حالتان يعاني من تداعياتهما السودان حتى الآن، من زاوية عدم الثقة في انفراد المؤسسة العسكرية بالحكم، وفقدانها عند القبول بالشراكة معها، وهي حالة تشكك في جدوى نزول النهر مرة ثالثة.
تضع الشعوب والقوى الحية في أي دولة نتائج الخبرات السابقة نصب أعينها وتحاول تحاشي الوقوع في الأخطاء، وحظ السودان العاثر وجيشه الوطني أن تصرفات البعض من قادته أفقدته جانبا كبيرا من الثقة السياسية فيه، لأن السلطة بدت مقدمة عنده على غيرها والمراوغة أضحت عنصرا أساسيا في التعامل مع القوى المدنية ما جعلها تصر على وضع صيغة صارمة لتجنب الوقوع في فخ التسويف.
البيئة التي تموج بصراعات غير تقليدية كما هو في السودان تقود إلى نتائج غير متوقعة، ربما تصل إلى طريق مسدود وغير مأمون العواقب بعد أن فقدت المسكّنات السياسية مفعولها
كان باستطاعة السودان أن يتجاوز الكثير من العراقيل ويعبر بسلام المرحلة الانتقالية لو جرى الالتزام بالصيغة التي حوتها الوثيقة الدستورية وتعديلاتها، وكان يمكن أن يفرض رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبدالفتاح البرهان صيغته لو نجح في ترك بصمات واضحة لوقف نزيف الأزمة الاقتصادية.

حاول البرهان أن يأخذ كل شيء لنفسه وجيشه ويحرم القوى المدنية من طموحها النظري في حياة ديمقراطية سليمة، فواجه مجموعة كبيرة من المطبات، فالمسكنات التي استخدمها في حواراته ومناقشاته ومفاوضاته مع القوى المدنية استخدمها مع القوى الخارجية ولم يجد له حليفا ظاهرا حتى الآن يتباهى بأنه يسانده.
اقترب من الولايات المتحدة وخذلها، وجرّب مسار إسرائيل ولم يفلح في مواصلته، وسعى نحو روسيا بلا فائدة، وفعل ذلك مع قوى إقليمية ودولية متباينة، ما نقل الثقة التي فقدها في الداخل إلى الخارج وأصبح التذبذب علامة مسجلة باسم القيادة العسكرية في السودان، تجاوزها قد يضمن تفكيك جزء معتبر من أزمات البلاد.
لم يعلن الجنرال البرهان أنه يريد البقاء في السلطة صراحة، ولم يتقيد بمواعيد تسليمها، ولم يظهر في جميع الجولات التي خاضها للتفاوض بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع خصومه أنه عازم على الالتزام بمصالح السودان إلى النهاية، وقد أدت تناقضاته إلى إرباك المشهد العام ما جعل البعض يحتار في حالتي الثقة وعدمها.
وضعت التصرفات التي أقدم عليها دوائر عدة في حيرة من أمرها، فالمواجهة المفتوحة مع الجيش تفضي إلى خسائر جسيمة، والمهادنة تفضي إلى وضع السلطة في جعبة قوى إسلاموية تخلصت منها البلاد بشق الأنفس من خلال ثورة شعبية اعتقدت قوى سياسية مختلفة أنها جرفت في طريقها الحركة الإسلامية ورموزها.

فشلت وساطة الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وهيئة الإيغاد في تقريب المسافات بين المكونين العسكري والمدني، وأصبحت ورقة المظاهرات هي المتاحة لتغيير معادلة السلطة التي حاول البرهان تكريسها لصالحه في الفترة الماضية، وهي ورقة لا أحد يضمن المدى الذي يمكن أن تصل إليه، فالاحتجاجات في السودان لا تنطلق من مكونات سياسية فقط، لأن هناك عددا كبيرا من المنخرطين فيها دوافعهم اقتصادية واجتماعية وعسكرية.
مـرّ السودان بكثير من المظاهرات وامتص الجيش ارتداداتها سريعا، لأنها كانت تحتفظ ببقايا ثقة في قيادته كجهة وحيدة تستطيع الحفاظ على مقدرات الدولة في مواجهة التحديات الكثيفة التي تتعرض لها، حتى هذه بات مشكوكا فيها، لأن التدهور الحاصل في مناحيَ عديدة قد ينزع عنها الصلابة التي عرفت عنها في أوقات عصيبة.
الجنرال البرهان يحتاج لأن يكون أمينا مع شعبه لأقصى مدى، لأن مظاهرات الثلاثين من يونيو خرجت لتغير الصيغة الحالية وتنهي فترة المراوحة التي تعيشها البلاد.
خسرت المؤسسة العسكرية قدرتها على المناورة مع القوى الداخلية هذه المرة، وفقدت جانبا من تعاطف قوى إقليمية ودولية وجدت فيها الجهة القادرة على منع انفراط عقد السودان، فمواقف عدد من الدول التي تظاهرت بالحياد بدأت تنأى عن دعم الجيش وتعلن رفضها لسياساته وتبدو أكثر قربا من القوى المدنية بعد أن أدى قبولها بالمسكنات إلى عقدة لا تستطيع معها التعويل على فرص للتقدم أو القبول بالتأخر.

جاء رهان رئيس مجلس السيادة على هذه المعادلة كي يجبر القوى المدنية على القبول بالصيغة التي يريدها وتخول له ترتيب أوضاع السلطة بما يمكنه من الإنفراد بها.
كاد هذا المسار أن ينجح، لكن التطورات الدولية بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا واحتدام الأزمة الغذائية في العالم، من بينها السودان، ألقت بظلال قاتمة على حسابات المؤسسة العسكرية وجعلت بعض الدول التي صبرت وقبلت بمشاركة الجيش في السلطة تبتعد قليلا عنه وتسعى إلى وضع ترتيبات تساعد القوى المدنية على العودة لصيغة تعصمها من التعرض لسيناريوهات تؤدي إلى دهسها سياسيا.
خسرت القوى المدنية بسبب فشلها في الحفاظ على تماسكها وكسبت المؤسسة العسكرية مؤقتا عندما نجحت في استمالة عناصر مؤثرة في صفوف خصومها، وهو ما جعل المعادلة تضاعف من صعوبة حسم المعركة لأحد الطرفين.
وتقود البيئة التي تموج بصراعات غير تقليدية كما هو في السودان إلى نتائج غير متوقعة، ربما تصل إلى طريق مسدود وغير مأمون العواقب بعد أن فقدت المسكّنات السياسية مفعولها، وغيرّت الكثير من القوى رؤيتها حيال الأوضاع في السودان، وزادت خشيتها من أن يتحول إلى منغص تحاول جهات متصارعة عالميا القفز عليه.
يحتاج الجنرال البرهان لأن يكون أمينا مع شعبه لأقصى مدى، لأن مظاهرات الثلاثين من يونيو خرجت لتغير الصيغة الحالية وتنهي فترة المراوحة التي تعيشها البلاد جراء الصراع بين المكونين العسكري والمدني، فإما أن تنتصر وتطوي صفحة وتعيد ضبط الأوضاع وفقا لبوصلة يعرف الشعب اتجاهاتها جيدا، وإما أن تهزم ويتمكن الجيش من فرض هيمنته على مقاليد الأمور ويهزم القوى المدنية ومن راهنوا على الشارع.

محمد أبوالفضل
صحيفة (العرب اللندنية)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى