تحقيقات وتقارير

السودانیون.. شعب الله (المُحتار)!!

 

 

(نورا) فی الثلاثینیات من عمرها الذي مكثت ثلثه فی الاغتراب مع زوجها.. دخلت فی معیة طفلتها علی مكتب رجل أعمال اسمه (محمد حسين)، لا تعرفه ولا يعرفها ولم تقصده بالتحدید وإنما التقته بالصدفة التی هیّأتها أقدار الله.. حكت له (نورا) قصة تضجُّ بالتراجیدیا، مُختصر تفاصیلها أنها وزوجها وأطفالها كانوا یرفلون فی نعیم إحدی دول الخلیج ویعیشون فی ترفٍ لا یقل كثیرًا عن حياة الأمراء، لكنهم نسوا أو تناسوا أن یأسِّسوا ولو (طوبة) واحدة في وطن الجدود الذی لا بُدَّ من العودة إليه والاستقرار به وإن طال السفر … بالفعل وصل رب الأسرة سن التقاعد فتم الاستغناء عنه فی (رمشة عین).. تَتِمَّة القصة بكل تفاصيلها الحزينة، نجدونها تحت هذه المُقدّمة.

بيت العنكبوت

جاءت الأسرة إلی السودان فی رحلة العودة النهائية فوجدوا أنفسهم بلا مأوی ولو (بیت عنكبوت)، ولذا كان الخیار الوحید أمامهم هو البحث عن منزل إیجار، حیث استقر بهم المقام فی شقة صغیرة بضاحیة جبرة بالخرطوم مقابل (١٢۰ ) ألف جنیه للشهر، ومع تطاول الأشهر، تناقصت الأموال التی عادوا بها من غُربتهم حتی وصلوا مرحلة فشل فیها رب الأسرة عن سداد قيمة الایجار، لیس ذلك فحسب بل فشل حتى في البقاء معهم بالشقة فخرج ولم یَعُدْ حتی الآن، تاركًا خلفه أطفالا لا حول لهم ولا قوة مع زوجةٍ أصابها الذهول مما یحدث أمامها.. مرّت قُرابة الأربعة أشهر ولا أثر للرجُل، فأسرته حتى لحظة كتابة هذه الأسطر، لا تعرف إن كان هو علی قید الحیاة أو أصبح فی عِداد الموتی… أما صاحب الشقة الذی لم یستلم ملیمًا من الایجار لمدة أربعة أشهر فبَدَا صبره ینفد.. وهكذا وجدت السيدة الصغيرة (نورا) نفسها بلا مُقدّمات (رب أسرة) مُواجه بمشكلات تنُوء بحملها الجبال الراسیات.. ولذا خرجت مع ابنتها الصغیرة تبحث عن حلٍّ عزِّ وجوده عند أهلها وأهل زوجها، عساها تجده عند الخیرین، رغم ما قدّمه زوجها لإخوانه من تضحیات أیام مجده واغترابه.. أقسمت (نورا) لرجل الأعمال الذی قصدته أنها وأطفالها (تأقلموا) منذ أشهرٍ علی تناول وجبة واحدة لا تُسمن ولا تُغني من جوع، لكنها فقط تُبقیهم علی قید الحیاة.. وأضافت لمُحدّثي رجل الاعمال (محمد حسين)، وهي تقول له: ليس هذا هو الموضوع، وإنما الموضوع بل المُعضلة التی تواجهنا هي إیجاد مأوی بدیل ولو فی أقاصي العاصمة التي تمدّدت وصولًا إلى الولایات المجاورة..

تبقی الإشارة المُهمة أن من قصدته تلك المرأة المغلوب علی أمرها كان (ود بلد أصیل) أسهم فی حل المشكلة بما یستطیع، بلا مَنٍّ أو أذی .. لكن یبقیالسؤال الأهم هو، كم مثل تلك المسكینة من بنات بلادي واجهت ذات المصير وربما أصعب وكیف تتصرّف أمام ضعف النفس البشریة الأمّارة بالسوء، وسط مجتمع مادي لا يرحم ولا يعرف الرحمة، اللهم إلا من رحِمَ ربي.

جُرعة أوكسجين

(سلمی) فی أواخر العشرینیات من عمرها أم لثلاثة أطفال، تسكن بالریف الجنوبي لأم درمان منطقة (التِّریس)، مُصابة بأزمة في الجهاز التنفسي وتستخدم لها البخاخ المعروف باسم (فانتولین)، یوم الجمعة الماضي وقبل الصلاة بساعتین تفاقمت أزمتها بصورة مُباغتة ودخلت فی نوبةٍ حادةٍ لم یَجْدِ معها استخدام البخاخ، فقرر أهلها اسعافها لأقرب مشفی لإنقاذ حیاتها، طافوا بها علی عدة مراكز صحیة متواضعة فلم یجدوا بها، من یرُدَّ علی سؤالهم ناهیك أن یسعی لعلاج مریضتهم، وهكذا حتی وصلوا منطقة (صالحة) لكن قبل أن یدلفوا إلی المشافي الخاصة أو الحكومیة الكاٸنة بأم درمان فاضت الروح إلی بارئها مبكیًا علی شبابها الغض وصغارها الذین أظلمت الدنیا فی أعیُنِهم البريئة….!!

وهكذا تدور الدوائر فی هذا الوطن المنكوب بسیاسیين منزوعي ضمیر من (عسكر ومدنیین) يتصارعون على (كراسي سُلطة) تفشل حتى في توفير جُرعة أوكسجین مُنقذة لحیاةِ شعبٍ مات أغلبه بالحسرات..!!

بين الفيضانات والاكتئاب

أما ما يحدث الآن من كوارث كادت تُغطي كل السودان بسبب موسم الأمطار الذي يُفترض انتظاره بفارغ الصبر لبلدٍ تؤكد مناهجه الدراسية في مراحله الابتدائية بأن 80% من سكانه يعتمدون على الزراعة، وبالتالي عِوَضًا عن أن يكون الخريف موسمًا لنماء الزرع وامتلاء الضرع، تحوَّل إلى أيام كوارث، حيث ارتفع عدد قتلى السيول الناجمة عن الأمطار الغزيرة في السودان إلى 75 شخصا، وطبقًا لبيانات رسمية، تضرر عشرات الآلاف من المنازل، وأكدت سلطات الدفاع المدني في بيان لها أن عدد الذين توفوا نتيجة للسيول والامطار وصل إلى 75 شخصا، وتهدّم 12551 منزلا كليا و20751 جزئيا، أما المصابون فبلغ عددهم 30 شخصا.

وقبل ذلك بأسابيع قليلة جدًا شهد إقلیم النيل الأزرق، مآسٍ تقطعُ نیاط القلوب ولا یحتاج سردها إلی تكرار، حيث انتشرت فیدیوهات لعملیات قتلٍ تمّت بوحشیة لا يتصوّرها العقل البشري، ما يجعل المتابع یفشل في إكمال مُشاهدۃ المقطع مهما بلغت به قسوۃ القلب، وهذا ما جعل وزير الصحة بالإقليم د. جمال ناصر السيد يقول لـ(السوداني) أن ثمَّة انتشار مخيف لظاهرة اكتئاب نفسي حاد عمَّ وسط أهالي بُسطاء كانوا ينعمون بالأمن والأمان، وبين عيشةٍ وضُحاها اجتاحتهم حرب (مجنونة) حصدت قرابة الـ(٢٠٠ ) روح، وأصابت أكثر من ( ٥٠٠ ) جريح، أما المشردون فقد زاد عددهم عن الـ( ١٥٠ ) ألف مواطن، نصفهم من الأطفال الأبرياء.. إزاء هذا الوضع بالغ السوء من كل النواحي، وأكد د. جمال ناصر تزايُد مُخيف في حالات الاكتئاب والأمراض النفسية، حيث بلغت وفقًا لإحصائية أولية (223) حالة، أما ما حدث بعد ذلك فيعلمه علَّام الغيوب.

تحليل سياسي

يقول البروفيسور عبدو مختار لـ(السوداني) إن المُكوٍّن المدني هو المسؤول عن التدهور الذي ضرب البلاد مؤخرا، لأنه بسبب تشاكس المدنيين أقدم البرهان على إذاعة بيان ٢٥ أكتوبر، بعد أن وصل إلى طريق مسدود معهم، واستدرك بقوله: صحيح أن ما حدث كان انقلابًا وتسبَّب في فراغ دستوري عريض، حيث لا توجد الآن حكومة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن كل ذلك ما كان له أن يكون لو لا تشاكس المدنيين وبحثهم عن مصالحهم الحزبية وربما الشخصية، وبذا أضاعوا ثورة عظيمة أزاحت نظام دكتاتوري شمولي جثم على صدر البلاد لثلاثة عقود، لكنه خرج بالباب وعاد بالنوافذ نتيجة للفراغ الذي حدث. ومضى بروف عبدو بحديثه أن البرهان عاد مُجددًا لوضع الكرة في ملعب المدنيين، وقال إنهم في انتظار اتفاق المدنيين لتسليمهم السلطة كاملة، وعودة الجيش إلى ثكناته. وأكد بروف مختار أن الوقت يمضي بسرعة وعلى المُكوّنين (العسكري والمدني) عدم إضاعة المزيد من الوقت، وبالتالي يلزمهما الآن قبل غدٍ تغليب مصلحة الوطن على مصالحهم الضيقة حتى لا نفقد بلادنا ثم نأتي للتباكي عليها حيث لا ينفع الندم والبكاء.

وُجهة نظر استراتيجية

من ناحيته قال خبير إدارة الأزمات اللواء أمين إسماعيل مجذوب لـ(السوداني): يبدو واضحًا الآن أنَّ السودانيين بمختلف أطيافهم السياسية والعسكرية والشعبية، قد (تورَّطوا) في ثورة ديسمبر، بحيث أن الثورة عندما قامت كانت تحتاج إلى نُخَب تُحدِث التغيير المنشود والنظام الديمقراطي المُرتجى وتكوِّن النظام المدني الجديد، لكن كانت هنالك صراعات وأخطاء أدّت إلى فشل الدولة ولذلك أصبح المنهج الآن قائما على وضعية الهروب من الأزمة، فالجميع يتحاشى الحديث عن الدمار الذي حدث في الاقتصاد، الأمن، الخدمات، ولذلك انصبَّ التفكير الآن في إدارة الأزمة بالأزمة، بمعنى انه كلما حدثت أزمة في البلاد سعت الحكومة لخلق أزمة جديدة وذلك لصرف أنظار الناس عن الأزمة الرئيسية وبالتالي عجزت النُخبة الحاكمة عن إدارة أمور البلاد، وهكذا سقطت الحكومة الأولى ثم تبعتها الثانية ثم حدث ما حدث بعد ذلك في ٢٥ أكتوبر فأصبحنا بلا حكومة.. ومضى اللواء اسماعيل بحديثه قائلا: لو وضعنا رسما بيانيا لما جرى، نجد انه قد حدثت ثورة وتغيير، وثيقة دستورية، حكومة أُولى سقطت، ومن ثم اتفاق سلام (جوبا) والذي ثبت تمامًا عند تنفيذه انه حوى إشكالات عديدة.. وأخيرًا كان الحوار الذي خرج منه المكوّنالعسكري، وهكذا يمضي مؤشر الرسم البياني إلى أسفل، في وقت يلقي فيه المكون العسكري اللوم على المكون المدني، والعكس صحيح.. أما من يدفع الثمن الحقيقي فهو المواطن الذي يعيش الآن في أسوأ أوضاعه المعيشية، الخدمية، الأمنية والسياسية وحتى العلاقات الخارجية الآن فاشلة وكل ذلك أمر طبيعي لأننا نعيش في كَنَفِ دولة فاشلة. واختتم الخبير الاستراتيجي اللواء أمين اسماعيل حديثه بالقول: كل النُّخَب الموجودة الآن ينبغي أن تخرج من المشهد السياسي وتترك المجال تمامًا لشباب يأتون لإدارة الدولة بطريقة صحيحة.

زاوية اجتماعية

وترى الباحثة الإجتماعية المعروفة ثُريا إبراهيم أن عدم الاستقرار السياسي انعكس بشكل مباشر على الأوضاع الاقتصادية والتي تدهورت بشكل مُريع وقادت بدورها إلى السيولة الأمنية التي عانت منها البلاد مؤخرًا ليس في أطرافها بل حتى داخل العاصمة الخرطوم، وأضافت ثريا في حديثها لـ(السوداني) أن تدهور الاقتصاد لم ينسحب على الأمن وحده، بل أثَّر حتى على (مزاج الناس) ويمكن ملاحظة ذلك من خلال العمل الروتيني اليومي في الخدمة المدنية، فالراتب الشهري لا يكفي أغلب العاملين في القطاعين العام والخاص ومن هنا يأتي (تعكير) المزاج وينعكس بشكل مباشر على الأداء العام.

وبحسب الباحثة الاجتماعية ثريا إبراهيم فإنه حتى الصراعات القبلية التي اشتعلت في أطراف السودان مؤخرا لها علاقة أساسية بعدم الاستقرار السياسي، ليس ذلك فحسب بل حتى تفشي خطاب الكراهية الذي انتشر الآن سببه الاختلاف السياسي، ونوّهت ثريا انها لا تعفي مُكوِّنًا عسكريًا كان أو مدنياً، فالكُل شركاء في ما آل إليه حال بلادنا، مُطالبةً بتناسي خلافات الفترة الماضية، وضرورة فتح صفحة جديدة نكتبُ فيها فقط مصلحة السودان ولا شئ غيرها.

 

ياســر الكُردي
صحيفة السوداني

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى