تحقيقات وتقارير

صورة أخرى لمصر في السودان

مصر تعاملت مع الهجرة أو النزوح بمرونة إدارية عالية على الرغم من علمها أن غالبية القادمين ربما يمثلون مشكلة اجتماعية واقتصادية حاليا ومستقبلا وهي ليست في حاجة إلى المزيد من السكان.

يحلو للبعض من السودانيين اختزال صورة مصر في بلدهم في الشقين السياسي والأمني وما لحق بهما من تشويه متعمد خلال فترة حكم الإخوان في الخرطوم، ويتجاهل هؤلاء الروابط الشعبية بين البلدين التي جعلت نحو خمسة ملايين من السودانيين يقيمون في ربوع مصر ويعيشون كأبنائها بلا تفرقة ويعملون في مجالات مختلفة.

كثر الحديث خلال الأيام الماضية عن نزوح الآلاف من السودانيين يوميا إلى مصر وأصبحت هناك حافلات تقلهم من وسط الخرطوم إلى أسوان بجنوب مصر ومنها إلى القاهرة ومدن أخرى، وهم يعلمون أن الأوضاع الاقتصادية ليست مزدهرة، في ظاهرة استعاد بها البعض عنوان رواية الأديب السوداني الراحل الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”.
مع التباين الشاسع بين الهجرة من الجنوب إلى الشمال في رواية الطيب صالح، حيث قصد بالشمال الغرب، وبريطانيا تحديدا وحوت إسقاطات سياسية عديدة، إلاّ أن العنوان في حد ذاته يعبر عن زيادة في أعداد المغادرين من السودان إلى مصر، ما يعكس قدرا كبيرا من الارتياح الشعبي ويقدم صورة أخرى مغايرة لها في السودان وبعيدة عن تلك التي حاولت جماعة الإخوان ترسيخها في عقل النخب والمواطنين ووجدانهم.
تعاملت مصر مع الهجرة أو النزوح بمرونة إدارية عالية، على الرغم من علمها أن غالبية القادمين ربما يمثلون مشكلة اجتماعية واقتصادية حاليا ومستقبلا، وهي ليست في حاجة إلى المزيد من السكان أو المهاجرين أو النازحين، وتعاني فئة كبيرة من المصريين من أزمات عميقة بسبب ارتفاع نسب البطالة والفقر والتضخم.

الحكومة المصرية تحرص على دعم الصورة الإيجابية بتبني تصورات مرنة في التعامل مع السودانيين، وتعلم مدى الحساسية التي يحملها الكثيرون للقاهرة وتريد تقويضها
لقي قرار الحكومة المصرية بمد فترة السماح لمن انتهت مدة إقامتهم في البلاد ستة أشهر أخرى ترحيبا على المستوى الشعبي لدى أبناء السودان، وتبدأ هذه الفترة من الثالث من أكتوبر الجاري، وهي المرة الثانية التي تتخذ فيه الحكومة هذا القرار على التوالي للمدة نفسها، مصحوبا بعدم التضييق على القادمين إلى مصر عبر المنافذ المختلفة، الأمر الذي وجد ارتياحا عند مواطنين ممن ضاقت بهم الأحوال في السودان.
يعبّر ذهاب الآلاف يوميا إلى مصر عن قلق ممّا يحدث في السودان وخوف من أن تشهد الأزمة السياسية مزيدا من التصعيد وغموض يخيم على آليات حلها، لكنه أيضا يكشف عن جانب خفي في العلاقة بين الخرطوم والقاهرة لا تريد أن تتوقف عنده قوى وأحزاب وشخصيات سياسية في السودان، حيث يحلو لهؤلاء تفسير بعض التطورات التي يمر بها بلدهم من واقع نظرة سلبية إلى مصر بشأن كل ما يخص بلدهم.
نشرت صحيفة “العرب” في عدد الاثنين الماضي (26 سبتمبر) تقريرا بعنوان “مصر تفقد حماسها للبرهان كضامن لاستقرار السودان” مرسل من مكتبها بالقاهرة، وتعرض التقرير لقراءة متعسفة ومبتورة وانتقائية، فلم يهمّ من تواصلوا معي بشأنه سوى سؤال واحد، هل رفعت القاهرة يدها فعلا عن البرهان، وكأن دعمها له هو الوحيد الذي يمنحه الصمود في مواجهة العواصف التي يواجهها في الداخل والخارج.

احتوى التقرير رصدا لشكل العلاقة بين القاهرة والخرطوم على ضوء زيارة قام بها رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان إلى القاهرة وهو في طريق عودته من نيويورك إلى الخرطوم واللقاء بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
أشار التقرير إلى عدم وجود مصلحة لمصر في الرهان على البرهان، انطلاقا من معلومات وتقديرات استقتها الصحيفة من مصادر تؤكد أن الأزمة السودانية يصعب ضبط مفاصلها في اتجاه معين وأن دولا عديدة تتبنى سياسة الانفتاح على الجميع.
كشفت توابع التقرير عن عمق التنافر بين رؤية سودانيين إلى مصر كملاذ آمن للملايين منهم، وبين محاولة تحميلها بشكل غير مباشر مسؤولية تدهور الأوضاع في بلدهم عبر مواقف سابقة بدت فيها القاهرة واضحة للغاية في دعم وحدة الجيوش العربية، وبينها الجيش السوداني بالطبع الذي يلتحم بقوة مع المسرح السياسي، خوفا من تكرار سيناريوهات قاتمة بعد حدوث انهيارات في جيوش دول مثل العراق وليبيا واليمن.

ما يهم المواطن عموما البحث عن الأمان، وقد وجدت شريحة ليست هينة من السودانيين هذا البعد في مصر، وهو ما دفع أفرادها إلى أن يكون الوقت الراهن يستحق منهم وصف موسم الهجرة إلى الشمال، وهي إشارة تتجاوز هدف الطيب صالح في روايته الشهيرة، حيث تشير في الحالة المصرية إلى وحدة وادي النيل التي تغنت بها أجيال، وتؤكد أن مصر رصيد إيجابي للسودان وليست عبئا سياسيا أو أمنيا عليه.
إذا جرت تنحية المكونات السلبية في العلاقة بين القاهرة والخرطوم يمكن أن ينصلح حال أمور كثيرة، وتجاوز صورة نمطية تقليدية بعيدة تماما عن تلك المختزلة في ذاكرة شريحة كبيرة من مواطنين يعيشون في المحروسة منذ سنوات طويلة، وهم من نقلوا إلى أقرانهم الجدد تفاصيل من تجاربهم شجعتهم على شد الرحال إلى مصر.

قرار الحكومة المصرية بمد فترة السماح لمن انتهت مدة إقامتهم في البلاد ستة أشهر أخرى لقي ترحيبا على المستوى الشعبي لدى أبناء السودان
تفتح مصر أو المحروسة، كما هي معروفة لدى فئة من العرب، أذرعها منذ سنوات لاستقبال مواطنين من دول عربية مختلفة ولم تضج بهم حتى الآن، لكن للسودانيين خصوصية أكبر لأن حضورهم لا يرتبط بأزمات يمر بها بلدهم، وقد يتزايد النزوح وتكثر الزيارات عندما تتصاعد، لكن في المحصلة لا ينقطعون عنها أبدا لأسباب كثيرة بحكم الروابط الشعبية القوية والخبرات التي توافرت لهم جيلا بعد جيل.
تحرص الحكومة المصرية على دعم الصورة الإيجابية بتبني تصورات مرنة في التعامل مع السودانيين، وتعلم مدى الحساسية التي يحملها الكثيرون للقاهرة وتريد تقويضها، ولن تستطيع المساهمة في حل أزمات السودان والانطباعات المأخوذة عنها غير ودية، ما يفسر زيادة أنواع الليونة لدخول السودانيين إلى الأراضي المصرية ومنحهم الكثير من التسهيلات الممكنة طالما أن القادمين لا يمثلون خطرا أمنيا.

كان التشدد كبيرا من جانب القاهرة وقت حكم الرئيس السابق عمر البشير الذي قبضت على مفاتيحه جماعة الإخوان وعناصر متطرفة تحالفت معها تحولت إلى منغص كبير للدولة المصرية، ما يجعل المرونة المتبعة للدخول تخضع أيضا لإجراءات أمنية صارمة، حيث تخشى القاهرة أن تضم عملية النزوح الجديدة عناصر خطرة، فقد أدت الأزمات الممتدة بالسودان لعدم حسم المواقف المعلقة لتجفيف منابع الكوادر المتطرفة.
يصب التقارب الشعبي في تهيئة أجواء مواتية أمام القاهرة لحماية مصالحها في السودان عندما يحل موعد إجراء الانتخابات، ويمكن للملايين الذين يعيشون في مصر بأريحية واطمئنان أن يمثلوا قوة ناعمة لعدم الإضرار بها من خلال مواجهة حملات منظمة يريد أصحابها من الإسلاميين أن تظل العلاقة بين البلدين متوترة على الدوام.

صحيفة (العرب اللندنية)

 

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى