آراء

عبد الحفيظ مريود يكتب: ماجد يوسف

 

قلت للصبية ليل أمس، ونحن نتونس على النيل، “والصبية بين سكيني وقلبي”، كما قال الصادق الرضي، قلت لها: “يلازمني التفكير فى الموت.. يملؤنى حتى التمام”.. فزعت، جزعت “ما تقول كدا.. ليه بتفكر بالطريقة دي؟”.. أجبتها: “بحكم السن.. وبخبرتي بالموت.. العاقل يجب أن يكون الموت حاضراً عنده.. ليس ترفاً.. فالموت ليس بعيداً، كما نتخيل”..

سيكون ردها – كما تفعل الفتيات اللطيفات – ” بعد عمرٍ طويل”..

حسناً..

مساء الخميس كان قلبي يحدثني أن أمسك هاتفي وأتصل على صديقي السفير ماجد يوسف. .إلحاح مريب.. قلبي لا يلح في أمر تافه.. لكن صرفتني الصوارف.. آخر لقاءين بيننا كانا العام الماضي.. ونحن نواري السفير جبير إسماعيل جبير الثري، في مقابر بعيدة فى شرق النيل، خريفاً.. كان جبير – رحمه الله – نادراً، توفي في باريس، بعد صراع مع المرض، وهو ابن بلدي بابنوسة.. جرحه بالغ، وفقده عظيم.. بعض الناس تعجز عن رثائهم.. لشدة التصاقهم بروحك.. حدث لي مع محمد يوسف عثمان وجبير.. ماذا يمكنك أن تقول بشأنهما؟

المرة الأخيرة التقيت السفير ماجد يوسف في صالة دينار. دعاني لزواج ابنه النابه، يوسف.. يلومني بلهجة دارفورية يتعمد استخدامها حين نلتقي “إنت بقيت كعب وجافي، يا خييي!!”.. أعده بأنني سأجيئه بمكتبه بإذاعة دارفور، التي يملكها، بالطائف، ثم لا أفي بوعدي.. ضعيف في الوفاء بالوعود، منذ أن خلقني الله.. يمكنني أن أعد خمسة أشخاص في نفس الوقت في أماكن متفرقة، ثم يأخذني آخذ لا علاقة له بهم، وبلا مبررات..

واللقاءان نقيضان: عزاء وعرس..

لكم كان الإمام أبو العلاء المعري شوافاً:

“وشبيه صوت النعي إذا قيس بصوت البشير في كل نادٍ”

حسناً..

التقيته بأسمرا، العاصمة الإرتيرية ثلاثاً.. الأولى حينما ذهبنا لنرتب لتصوير فيلم “نساء من نار”، عن دور المرأة الأرتيرية فى حرب التحرير، برفقة مدثر الهادي وعثمان هارون.. كنت قد شرحت له الأمر، فنصحني أن “تعالوا هناك، نعالج الموضوع”.. ولكن الموضوع لم يتعالج، لتعارض توجهات الفيلم مع الحكومة الأرتيرية.. الثانية كان قد اتصل علي لأنه يرتب لمجموعة فنانين محبوبين في إرتيريا للمشاركة في احتفالات ذكرى الاستقلال “تعال وارجع.. ما بتخسر حاجة”.. ذهبت مع فنانين كبار وعازفين مهرة: عبد القادر سالم، كمال ترباس، سيدي دوشكا وفهيمة عبد الله.. كانت فرصة لأتلمس العمق العميق للغناء السوداني في الوجدان الإرتيري..

الثالثة في ٢٠١٥م.. “أسمع: ح أرسل ليك تذكرة.. تعال عندي حاجات دايرك تشتغلا لي هنا بهدوء.. وتغير جو.. خمسة أيام بس”..

ذهبت..

أسمرا هادئة.. مثل فتاة من أم ضواً بان.. ذلك سحر آخر، لا يقاوم.. نلتقي في حديقة منزله صباحاً، نفطر، ويخرج إلى سفارته، فيما أمكث أكتب ما استقدمني له.. حين يعود، ويأخذ قسطاً من الراحة، ندير حواراتنا.. ماجد يوسف ذاك الهادئ الرزين، الخفيض الصوت، المهذب، الخالي من الادعاءات سيأخذك إلى عوالم أفريقيا.. سيحكي لك قصصاً.. سيذكر لك أسماء.. سيعدد لك مدناً وتفاصيل لأحداث دقيقة.. حين يصحح لك معلومة فإنه يفعل ذلك بحيث يجعلك تعرف الفرق بين التصحيح والتعالم.. بدأ حياته المهنية صحفياً بجريدة “الراية”، وهو خريج القانون.. ثم التحق بالخارجية.. خدم في أفريقيا، السعودية، أوربا، واشنطن، على أيام كان سفير السودان أحمد سليمان المحامي.. نيويورك، قبل أن يتم ترشيحه لأسمرا، التي خدم فيها سفيراً لما يقارب الثمانية أعوام..

تولى ملف السلام في الخارجية السودانية.. خازن أسرار دقيق، ومعالج بصير، برؤية ثاقبة.. لن تصادفه مكشراً.. أو منفوخاً، أو ضجراً..

أسس إذاعة دارفور وهمه الرئيس أن هناك حكمة لدى عجائز دافور ينبغي توثيقها.. هناك طرائق للتعارف بين أهل دارفور أنفسهم، وبينهم وبين أهل السودان.. مثلما هناك طرائق للتعارف بين البني آدمين لم تكتشف.. ماجد يحب أن يوطد المعرفة.. تنشأ الحروب، تحتدم الصراعات، تسوى المدن بالأرض بسبب قلة المعرفة، لا أكثر.

شايف كيف؟

لو أنك تعرف أنك ستموت في اللحظة التالية لما اكترثت للتنافس على جيفة الدنيا.. “قدر فيها أقواتها”، وقسم “الخلائق بيننا علامها”، كما قال زهير بن أبي سلمى..

رحل ماجد يوسف: الودود، الوسيم، المتواضع، الصادق، العطوف، الشغوف، البار بأبويه، العليم ببواطن الأمور، الحكيم.. الفكه عالي الحس بالنكتة الراوي لها..

مرة – بعد سقوط الإنقاذ، وقبل أن يصدر كشف إزالة التمكين – اتصل علي، وقال معابثاً: ” تعالى لي في الخارجية.. لأنو ما أظنك تقدر تدخلا تاي.. دي آخر فرصة ليك لدخول مباني الوزارة دي.. أحسن تستغلها”..

وكالعادة لم أفِ بوعدي.. لم أذهب إليه، ولم أدخل مباني الخارجية، ولا أظنني سأفعل.

اللهم تقبله القبول الحسن، وألحقه بالصالحين.

 

 

 

صحيفة اليوم التالي

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى