آراء

جعفر عباس: كارثة تلفزيونية جديدة

خرجت علينا الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا بكارثة إعلامية تمثلت في تدشين أول قناة تلفزيونية مخصصة للأطفال ما بين سن ستة أشهر وثلاث سنوات، ويقول القائمون على أمر تلك القناة (بيبي فيرست تي في https://www.babyfirsttv.com/) وتعني «تلفزيون الطفل أولاً»، إن برامج القناة عبارة عن مجموعة ألعاب خفيفة تشد انتباه الأطفال وتعلمهم الأشكال الهندسية الأساسية (دائرة ومربع ومستطيل) وتمييز الألوان، وأن هناك برامج الغرض منها هدهدة الصغار لحملهم على النوم.

الكارثة الحقيقية هي أن تلك القناة قوبلت بترحاب فائق من ملايين العائلات الأمريكية، وستنتقل خدماتها إلى بريطانيا خلال الأشهر القليلة المقبلة، ومن المعروف أنه إذا عطست أمريكا وبريطانيا أصيب بعض العرب بعسر الهضم وفتق الحجاب الحاجز والحمل خارج الرحم، فإذا كنا قد استوردنا برامج الإسفاف والتفاهة واللغو، فهل يعقل أن ننجو من قناة كهذه غايتها جعل التلفزيون «دادة/ جليسة أطفال إلكترونية»؟ هل صار الأطفال عبئاً بحيث نسعى لابتكار وسيلة تلهيهم وتصرفهم عنا فلا يحتاجون لرعايتنا؟ هل هناك متعة تعادل متعة رؤية طفل رضيع يتعلم المشي ويقلب الطاولات ويحشو رغيف التوست في جهاز الفيديو ويصاب بلوثة عقلية مؤقتة ويبدأ في الرفس و»الريالة» كلما رأى زجاجة أو كوب عصير في يد ضيف؟ ماذا سيقول عني ولدي الأكبر وزوجته بعد ان يسمعا بأمر هذه القناة وأنا الذي «طربقت» الدنيا على رأسيهما عندما رأيتهما يعطيان حفيدي آيباد لإلهائه، عوضا عن مجالسته ومسامرته كما فعلت انا مع عيالي؟

حتى عندنا في العالم العربي حيث الأسرة أكثر تماسكا من نظيرتها الغربية، لم تعد الأمهات يغنين للرضع من عيالهن، بينما كانت أمهاتنا يؤلفن أهازيج خفيفة أو يرددن بعض المتوارث منها، لتهدئة الصغار عند البكاء أو تعبيرا عن الفرح لدخولهم حياة الأسرة (من محفوظات أغاني الهدهدة في السودان: النوم تعال/ سكِّت الجهال/ النوم، النوم ولدي الغالي/ النوم النوم يستر حالي- نعم ففي السودان نسمي صغار السن جهال ومفردها جاهل)

كنت وما أزال أعتقد أن التلفزيون أداة إعلامية مهمة وخطيرة، تستطيع أن تلعب دوراً كبيراً في التنوير والتوعية والترفيه، ولكن الشيء إذا فات حدَّه انقلب ضده. فالتنوير صار تسليط الأنوار والأضواء على العورات، والتوعية صارت تعني أن التلفزيون «وعاء» ينضح بالوسخ والعفن والنتانة، والترفيه صار مفهوماً هلامياً تمارس بمقتضاه تجارة الرقيق الأبيض (الحمد لله أن السواد الذي يرمز في اللغة للبؤس وسوء الحظ والتعاسة لا يستخدم للرمز إلى الفسوق والفجور العادي أو الإلكتروني).

ما دور الأب أو الأم في الحياة إذا قام التلفزيون بمهمة الهاء طفل رضيع عن اللعب والعبث؟ كانت لي بنت «عذبتني» في طفولتها بشقاوتها وعنادها، وكانت لا تنام ما لم استلق على ظهري ورقدت هي فوق بطني فأطبطب على ظهرها بلطف. كانت مزعجة ومرعبة بدرجة أن جدتها لأمها، وكانت امرأة تتسم بالصبر الشديد وطول البال، كانت تقول كلما رأتها نائمة: نوم الظالم عبادة!! ويا ويلي إذا نمت قبلها. فقد كانت تدخل إصبعها في عيني أو فتحة أنفي فأصرخ وانتفض من الألم فتبتسم في خبث وتغمض عينيها لتوهمني بأنها فعلت ذلك وهي نائمة. وعندما كبرت وصارت تستحي أن تنام فوق بطني أو حتى قربي على السرير، أحسست بمرارة «الفراق».. مررت بتجربة الانسحاب withdrawal التي يمر بها «المدمن» عندما يتوقف عن تعاطي شيء معين! أصغر أولادي، وبعد أن كان مرحا ضحوكا وشقيا صار «ثقيل الدم» لأنه يريد أن يتصرف وأن يعامل كشخص كبير، وكان من قبل يسعد بالرقاد معنا أنا وأمه ويكون في قمة السرور عندما «أصارعه» أو أرمي عليه مخدة أو كرة مطاطية.

ومع انني لست من عشاق قيس بن الملوح ولا احترم انه كان مجنونا بليلى، إلا أنني أعشق من شعره قوله: تَعَلَّقتُ لَيلى وَهيَ غِرٌّ صَغيرَةٌ /… إلى قوله: صَغيرَينِ نَرعى البَهمَ يا لَيتَ أَنَّنا/ إِلى اليَومِ لَم نَكبَر وَلَم تَكبَرِ البَهمُ.

جعفر عباس – الشرق القطرية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى