آراء

مساء تودع عجوزاً.. صباحاً تستقبل شابة

من بين المدن الجميلة التي تدهشك بقضاء تلك الليلة المسعورة، لكنها بالتأكيد من غير صباحات موقظة، وباعثة على التمطّي الكسول، وأنت تقبض على البهجة الندية، كانت مدينة هونغ كونغ، حيث شاهدت لأول مرة في حياتي الألعاب النارية الضخمة عام 1982، فقد كانت كل معرفتنا تبدأ وتنتهي بـ «الشِلّك والشرشار»

ليلتها لم أنم من فرحة الطفل الذي في الداخل، فقد كان يضحك كثيراً، ومنشرحاً لذلك الشيء الجديد الذي يراه لأول مرة في سماء المدن.لم يكن قضاء تلك الليلة الهاربة بالعام المنصرم، والآتية بالعام الجديد كلها في مدن صاخبة، ويجن جنونها وهي تمارس لعبة الرقص حول النار، فقد قضيتها مرة في مكة، وفي رحاب قدسية، وروحانية، وكانت صباحية نهار بارد مثل روائح الجنة في المدينة المنورة، ومرات في مدن لها تلك القداسة والمنزلة الدينية في أماكن متفرقة من هذا العالم.لكن من المدن التي لا تنسى ليلة رأس السنة فيها، لندن، لكن كل الدعوات التي تتضرع أن تكون ليلة خالية من مطرها المغث.

وليته يكون في نهار العام الجديد، لا تنجح كثيراً، ولكنها ليلة جميلة بامتياز، حتى بردها يمكنك التعامل معه بطريقة الجنتلمان الإنجليزي المتدثر بالصوف والكشميري صيف شتاء، والمتهندم في رجولته التي كنا نراها غير ضرورية وقتها، لكن بردها بالتأكيد لا يشبه برد ميونخ رأس العام، ففي عام 2017 هبطت درجة الحرارة إلى ما يقارب العشرين تحت الصفر، وهي قاسية على رجل جاء من صحراء ما زالت حرارتها تنغل في شهر ديسمبر، في ميونخ كل شيء فجأة تجمد، وغدا متخشباً أبيض، لكنها كانت دافئة في الداخل وبمن حضر تلك الأمسية البافارية.لابد وأن يكون للقاهرة تلك المدينة الدهرية نصيب من تلك الليالي، فهي وحدها القادرة أن تخلق ضحكها وأنسها وطربها.

وقادرة أن تجعل منك زاهياً بالفرح ما دمت فيها، القاهرة المدينة الوحيدة التي تمنع دمعتك أن تنزل ليلة وداع السنة العجوز، واستقبال السنة الشابة، الكل ترقصهم على دف وطبل فيه أنس خطوات الوداع، وزهزهة الخطوات التي تتقدم بها السنة الجديدة بخفر وخجل، القاهرة استثنائية في هذا المجال، ولا مدينة تضاهيها.

من المدن المدهشة والتي تستحق أن تقضي رأس السنة فيها ولن تندم، مراكش الحمراء، مدينة السبعة رجال، فإن كنت تبغي الخيال وحكايات الأساطير، واحتفالات من غابر الزمان، فاقصد مراكش، وتَعَنّى لطربها الأندلسي، وموائدها الملوكية، وإن بغيت أن تنزل الزعاف من الرأس فاستصخ للـ «بندير»، واجعل «القناوي» لا يهدأ ولا يناوي، واستنزل ليلتها كل الخسارات والهزائم، ولتكن مراكش عروسة ذاك الوقت، ولا تفوت عليك صباحية منعوتة أنها من وصفة العطارين الآبدين في حوانيت سوقها القديم، مخبئين أسرارهم، وحكايات تلك المدينة الحمراء.وهناك مدن كثيرة.. في الجهات الأربع ودعت معنا عامنا الذاهب، واستقبلت معنا عامنا المقبل، والحديث عنها لا ينتهي، لأنها ربما كانت بركة تلك اللحظة الفاصلة من ذاكرة منتهية، وذاكرة جديدة تتشكل.

ناصر الظاهري – صحيفة الاتحاد

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى