آراء

مسقط رؤوس المستنيرين -2

أحاول أن أتذكر مدن وقرى ومسقط رؤوس المستنيرين، ومنازلهم التي تحولت إلى متاحف، والتي زرتها في العالم، وهي كثيرة، وأغلط في العد، كنت دوماً متقصداً الزيارة، ومتأسفاً أبداً إن لم تتم، من بين ما أتذكر الآن، قرية «بْشِرّي» في شمال لبنان على جبل «المكمل»، ووادي «قاديشا» أو القديسين، مسقط رأس شاعرها وفنانها «جبران خليل جبران»، قرية يحفها الهدوء والطمأنينة الدينية، فهي بلدة خمسة من القديسين، وفيها غابة «أرز الرب»، تتعمم بالثلج شتاء، فيضفي عليها وقار المؤمنين، ومرة.. زرت مدينة طنجة العالية، تقصياً لأثر ابنها الرحالة «ابن بطوطة» وقبره الذي يتخذ ركناً قصيّاً من درب بيوت الناس البسطاء، وسوقهم الشعبي، وفي زنقة ابن بطوطة يرقد ذلك الرحالة بين ضجيج ذلك الحي الفقير، ضريحه مهمل، وكل ما حوله يسوده الازدراء، وعدم الاهتمام وعدم النظافة، وكل ما حوله من حوانيت تسمت باسمه، حلاق ابن بطوطة، جزارة ابن بطوطة.كما زرت في مدينة توزر التونسية بيت الشاعر «أبي القاسم الشابي» الذي هدم مؤخراً بعد تنازع الورثة عليه، وعدم تدخل الحكومة في الحفاظ على إرث جميل كان حرّياً به أن يتحول إلى متحف، بدلاً من ذلك المتحف الهزيل الذي له، والذي فيه ما تبقى من أشيائه ومخطوطاته وأثاثه، لكن يبدو أن الأمور في المدن الأوروبية التي تضم بيوت كتّابها وأدبائها وفنانيها مختلفة ومقدرة، حيث تجد البيوت مصونة، ومحافَظاً على طابعها، وحتى ألوانها وأثاثها، وتجلى لي هذا حين زرت بيت شاعر ألمانيا الكبير «غوته» في فرانكفورت، والذي بدا لي أنه أشبه بمتحف مصغر فيه كل ما يخص هذا الرائع الكبير، وقس عليه بيوت الفنانين من رسامين وموسيقيين في فيينا وأمستردام ومدن فرنسا ومدن بريطانيا.

في الدول الأوروبية، لن تجد معضلة ضياع وتشتت إرث مبدعيها، فلكل شيء من ذلك قيمة، ويحظى بتقدير، وغالباً ما يكون مسقط رؤوسهم أماكن سياحية، ومتاحف خاصة، فمدينة صغيرة مثل «ستراتفورد» أو «Stratford-upon-Avon» اكتسبت شهرتها لأن شكسبير منها، وتفاصيلها في كتاباته، اليوم يقصدها السياح من كل العالم، حيث يزيدون على خمسة ملايين سائح كل عام، لقد احتضنت شكسبير هذه المدينة التي على نهر «آفون»، فخلّدها، وأعطاها من شهرته حتى اليوم، فزان وزاد من جمالها الطبيعي.. تذهب إلى مدينة «سالزبورغ» في فيينا فتجد منزل الموسيقار «موزارت».. تكون في أمستردام فتجد منزل الرسام «رامبرانت»، وفنانها المجنون بالأصفر «فان غوخ».. حتى في الشرق البعيد رأيت جلال التقدير حين زرت بيت زعيم فيتنام الوطني «هوشي منه»، ومنازل ومتاحف كتّاب روسيا الكبار.هكذا يعيش الكثير من العلماء والعباقرة والمبدعين من شعراء وفنانين ورسامين وموسيقيين حياة الضنك في الدنيا، ويفرّون من مدينة إلى أخرى طلباً للسكينة،

وتبليغ علمهم أو طلباً للحرية ومساحة للإبداع، وإعداد تلاميذ ومريدين من بعدهم، لأنه غالباً ما تتنكر لهم بلدانهم، ومسقط رؤوسهم في الدنيا، ولكم تحزنني قصة ذلك الرسام الذي يذرع شوارع مدينته، وحين يحلّ المساء الحزين بالخمر، يتوسد قاعدة تمثاله لينام متعباً من جحود المدينة لجثته، بينما هي تحتفي بكل تلك الأحجار الرخامية التي كان من الممكن أن تصنع له بها حديقة كبيرة، وبيتاً صغيراً، ليشعر مرة بمعنى أن يكون لغرفة نومه سقف مضيء، ويفتح عينيه على الأخضر في الحياة، ومع ذلك يظل هؤلاء الفنانون والكتّاب مصدر فخر بعد مماتهم، ويخلّدون مدنهم التي ربما ناصبت إحداها أحدهم العداء، غير أنهم مسامحون ومتسامحون كعادتهم، وخاصة مع مسقط رؤوسهم!

ناصر الظاهري – صحيفة الاتحاد

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى