آراءأبرز العناوين

المظاهرات وحرب المناطق الرمادية و الأمن القومي

من المعلوم في لحظات الحرب، تتغيّر قواعد السياسة، وتُعاد صياغة الأولويات، وتنتقل الدولة من منطق إدارة الاختلاف إلى منطق حماية الوجود. فالحرب ليست فقط صراعًا بالسلاح، بل معركة على الوعي، وعلى تماسك الجبهة الداخلية، وعلى قدرة البلاد على منع العدو من التسلل عبر الواجهات الاجتماعية والسياسية.
من هذا المدخل، لا يمكن النظر إلى ما جرى في ذكرى 19 ديسمبر كتظاهرة عادية، ولا حتى فعلًا معزولًا عن واقع الحرب، بل كجزء من مشهد يتقاطع فيه المهددات مع الأمن القومي مع معركة استعادة الدولة.
السودان اليوم يعيش حربًا وجودية استهدفت العاصمة، وهددت وحدة البلاد، وفككت النسيج الاجتماعي، وفتحت الباب للتدخلات الخارجية. وفي مثل هذا السياق، تُعد وحدة الصف شرطًا سابقًا على أي حديث عن الديمقراطية، بل إن أدبيات الحروب الداخلية تذهب إلى أبعد من ذلك، معتبرة أن الدولة لا تستمع في زمن الحرب حتى لإعلام العدو، لأن أي تشويش على الوعي العام يُترجم مباشرة إلى خسائر في الميدان.
انطلاقًا من هذه القاعدة، فإن السماح بمظاهرات – مهما كان مبرراتها أو حجمها أو شعاراتها – في توقيت تخوض فيه القوات المسلحة معركة مفتوحة، لا يمكن فصله عن تأثيره المباشر على الجبهة الداخلية. فالتظاهر هنا لا يعتبر تعبير سياسي بقدر ما يُنتج أثرًا سالبا : تشتيت الجهد الوطني، ضرب الروح المعنوية، وإرسال إشارات للخارج توحي بتفكك الدولة.
الأخطر من الفعل نفسه هو هوية القوى التي تقف خلفه. فهذه المجموعات بحسب الوقائع لا الاتهامات، لم تكن على الحياد عند اندلاع الحرب، بل انحازت للمليشيا سياسيًا وإعلاميًا وربما عسكريًا، ووفرت لها الغطاء أو التبرير، و صمتت عن جرائمها. وبعد أن تحررت الخرطوم وانكشف ميزان القوة، أعادت هذه القوى التموضع داخل النسيج الاجتماعي، في انتظار لحظة أقل كلفة للعودة للفوضى لخدمة أجندة المليشيا. نحن إذًا لا نواجه معارضة تقليدية، بل بقايا حرب لم تُفكك بعد، وشبكات استخبارية تحاول إعادة إنتاج نفسها بأدوات ناعمة ، بعد أن فشلت أدوات العنف.
من زاوية الأمن القومي، تؤدي مثل هذه التحركات ثلاث وظائف خطيرة: أولًا، إرباك الدولة في لحظة انتقال حساسة من إدارة الحرب إلى استعادة التعافي. ثانيًا، تقويض الروح المعنوية للقوات المسلحة والمستنفرين ، عبر خلق انطباع زائف بانقسام الشارع. ثالثًا، إرسال رسائل للخارج بأن الخرطوم لم تستعد عافيتها، وأن عودة المؤسسات ما تزال محل شك.
وهنا تبرز دلالة التوقيت. فهذه التحركات جاءت متزامنة مع إعلان عودة الوزارات والمؤسسات الرسمية إلى الخرطوم بنهاية ديسمبر، ومع موجة عودة تدريجية للمواطنين من الداخل والخارج. مع استعادة العاصمة كمركز للقرار ،باعتبارها إعلان عن السيادة، ونقطة تحول في مسار الحرب. هذه العودة، تهدد المليشيا وداعميها أكثر مما تهددهم المعارك العسكرية، لأن الدولة حين تعود إلى العاصمة الخرطوم تُغلق هوامش الفوضى، وتُربك حسابات الخارج، و تؤكد استعادة الأمن.
من هذا المنظور، يصبح من غير المستبعد أن تكون هذه التحركات جزءًا من خطة تُدار بذكاء ضمن ما يُعرف بحرب “المناطق الرمادية “: خلق فوضى محدودة، لكنها ذات أثر سياسي وإعلامي كبير، لإرباك عودة المؤسسات، وتخويف المواطنين، وإبقاء صورة العاصمة كمدينة غير مستقرة. إنها محاولة لمنع اكتمال التعافي، لا لفرض تغيير سياسي مشروع.
الثابت بحسب مصادر، أن كوادر سياسية وتنظيمية معروفة، سبق أن لعبت أدوارًا محورية في إضعاف بنية الدولة وتقويض هيبتها، أعادت خلال الأشهر الأخيرة تموضعها بهدوء تحت مظلات منظمات أجنبية تنشط داخل السودان، منظمات ترفع شعارات إنسانية وتنموية، لكنها تجاوزت عمليًا وظائفها المعلنة لتتحول إلى منصات للعمل السياسي، تُدار عبرها شبكات التمويل والتدريب والتنسيق الإعلامي بعيدًا عن أعين الرقابة .
هذه الكوادر لا تتحرك بدافع الاحتجاج العفوي أو الضغط السلمي كما يُروَّج، بل ضمن تصور استراتيجي طويل النفس، جرى تصميمه بعناية وتكييفه مع تطورات الحرب، فبعد تعثر الرهان على إسقاط الدولة عبر السلاح، انتقل مركز الثقل إلى تفكيكها من الداخل، عبر إنهاك الجبهة الداخلية ، واستنزاف قدرات الأجهزة، وتشتيت الانتباه العام، وضرب الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، في توقيت بالغ الحساسية.

في المقابل، فإن التحدي الحقيقي هو التمييز بين الحق في التعبير في زمن السلم، والتلاعب بالمجال العام في زمن الحرب. الديمقراطية لا تُلغى، لكنها تُؤجَّل لصالح أولوية أعلى هي بقاء الدولة. فالتعددية لا تُمارس تحت القصف، ولا تُبنى الحرية فوق جراح وطن لم تجف دماؤه بعد.
المعضلة البنيوية لا تقف عند الشارع، بل تمتد إلى قمة الدولة. فغياب مركزية القرار، وتعدد مراكز القوة، وصيغة الحكم الهجينة، كلها عوامل تُضعف قدرة الدولة على الحسم، وتفتح الباب للتقديرات الخاطئة. لا توجد دولة تُدار فعليًا بمجلس متعدد الرؤوس في لحظة حرب. الحسم السياسي والأمني لا يعني الإقصاء، بل وضوح المسؤولية، وربط القرار بالمحاسبة.
الخلاصة وفق #وجه_الحقيقة أن ما يحدث لا ينفصل عن معركة الوجود التي تخوضها بلادنا فكل تصدع في الجبهة الداخلية، وكل تشويش على سلم الأولويات، وكل استدعاء لخطاب ما قبل الحرب، يصبّ عن قصد أ في صالح العدو. وحدة الصف ليست ترفًا سياسيًا بل شرط بقاء. اليوم الدولة أولًا، والجيش سندها، والوعي درعها. وما عدا ذلك، مهما تجمّل بالشعارات ، ليس سوى عبثٍ خطير يجب حسمه فالدولة تقف علي الحافة.

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



هبة علي

محررة بكوش نيوز تهتم بشتى جوانب الحياة في السودان والاقليم، تكتب في المجال الثقافي والفني، معروفة بأسلوبها السلس والجاذب للقارئ.
زر الذهاب إلى الأعلى